جارتي من بلاد باردة

11/10/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

سلوى أسعد أحمد عمرو

 

أقطن في منزل قروي يطغى عليه الفن المعماري اللبنانيّ القديم وتحيط به الكرمة وأشجار الزيتون والجوز واللوز وقربه بئر ماء تجمع فيها مياه المطر في الشتاء لنستفيد منها في الصيف لريّ تلك الأشجار.

ويجاور منزلنا قصر صغير على الطراز الأوروبي الحديث تقطن فيه إمرأة فنلندية متأهلة من ابن قريتي الكابتن البحري فؤاد وحكاية زواجهما قصة طويلة دامت سنوات كان ثمرتها طفلة شقراء في السابعة من عمرها تلهو دائماً عصر كل يوم في حديقة القصر مع قطتها الجميلة فيفي.

في ليلة من ليالي الصيف الحار جلست أمام شرفة منزلي القديم المقابل للقصر أستمتع بضوء القمر وببعض الهواء المنعش الآتي من جهة البحر وأنا أشكو إلى الله تعالى إنقطاع التيار الكهربائي الدائم، وسيطرة ظلام الليل على قريتي العزيزة. وإذ بجارتي الفنلندية تطلُّ عليَّ مع طفلتها الصغيرة من شرفة حديقتها لتسألني عن بعض المأكولات اللبنانيّة وكيفيّة تحضيرها؟

فانتهزت المناسبة لأسألها عن الكهرباء وإنقطاعها في بلدها فنلندا؟. وكيف يتصرفون بغيابها وعن البديل؟

فكان جوابها أن سخرت من سؤالي وضحكت بصوت عال لعدّة دقائق!. فصحت بوجهها طالبة منها إلتزام الأدب وحفظ الجوار.

فأجابت: عفواً يا جارتي العزيزة أنا لا أسخر من سؤالك أو منك! إنّما أسخر وأضحك من الوعود الجزافيّة التي تقطعها شركة الكهرباء في هذا البلد  كل مرّة ويذهب الوقت مع الوعد المرّة تلو الأخرى ولا شيء غير الكلام!.

ثُمّ قالت لي بصدق: إنّ جمهوريّة فنلندا تقع في شمال أوروبا حيث المناطق الشماليّة من البلاد ضمن الدائرة القطبيّة الشماليّة في منطقة تسمى أرض شمس منتصف الليل، حيث تسطع الشمس لفترة 24 ساعة في اليوم خلال فصل الصيف.

وتقع مدينة هلنسكي، العاصمة وكبرى مدنها، في الجنوب على خليج فنلندا. مساحة فنلندا 338,145كلم2. بما فيها 33,522 كلم2 من مياه داخلية مؤلفة من بحيرات وأنهار. عدد سكانها في أيامنا هذه قرابة ستة ملايين نسمة.

عانت فنلندا خلال تاريخها الطويل مشاكل الإستعمار السويدي والروسي لها ولم تحصل على إستقلالها من روسيا إلا في عام 1917م، لا يوجد في بلادي بترول أو غاز أو ذهب أو ماس!. ومع ذلك  

فإنّ الكهرباء فيها لا تنقطع ابداً وهي تستخرج من المصادر المائيّة.

كما لا يوجد في بلادي فقير واحد أو متسول واحد كما لا يوجد في بلادي رشوة أو من يرتشي أو واسطة أو نحو ذلك كما هو موجود في بلادكم. فالجميع يحصل على حقوقه الوطنية دون واسطة أو رشوة أو دعاية إعلاميّة.

كما أنّ الدخل القومي لبلادي في السنة الواحدة هو ستمائة وخمسون مليار دولار أمريكي أي أكبر من دخل دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة!.

وعندما توقفت جارتي عن الكلام ظننت أنني أعيش في حلم جميل أتصور به تلك البلاد الباردة البعيدة وأهلها السعداء الّذين لا يعرفون الكذب والنفاق والرشوة في حياتهم أو إنقطاع التيار الكهربائي!!.

وجعلت أسألها أنىّ لهم بهذه الثروة العظيمة؟ وكيف؟ ومتى؟

فأجابتني: إنّ ثروة فنلندا التاريخيّة كانت من خلال الأخشاب والمراعي الخضراء والأسماك ولكنهم بدلاً من تصدير الأخشاب كما كان الأمر سابقاً فهم الآن يصنعون منها الورق ليصبحوا بذلك أهم منتج للورق في العالم. وكذلك هم يصدرون الفرو واللحوم والأجبان والألبان. كما تشتهر بلادي بصناعة السفن والآلات وغيرها من صناعات.

كما تقدّم الحكومة الفنلندية جميع الخدمات الرعائيّة لجميع المواطنين من الأولاد الّذين تقلُّ أعمارهم عن 16 عاماً ولجميع النساء الحوامل ولجميع الشيوخ العجزة وأصحاب العاهات دون إستثناء منذ عام 1948 ولغاية تاريخه.

بعد أن أنهت جارتي حديثها الطويل والجميل عن بلادها البعيدة والباردة. حمدت الله تعالى على إنقطاع التيار الكهربائي في هذه (الدردشة) حتى لا ترى جارتي تعابير وجهي في هذه الليلة الظلماء وترى عليه آثار الدهشة والتعجب والحزن!.