امرأة في دوامة

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحاجة نمرة حيدر أحمد(أم مصطفى)(1)

كنت أسمع أن للظلم ألوانًا وأشكالاً وضحايا، وأشاهد في الأفلام تجسيداً لمظاهره، ولكن ما سمعته وما رأيته في ذلك اليوم أذهلني وراعني، لأنه أثبت لي مدى هشاشة قيم هذا المجتمع الأخلاقية والدينية، ومدى تحلّلها بشكل مخيف أفقد الضعيف الحصانة وأعطى الظالم براءة ذمة ليفجّر مكنونات عُقَدِهِ بمن كانوا تحت سيطرته. وكلّ ذلك لا حسيب ولا رقيب سوى الله عزّ وجلّ وانتظار الحساب في الآخرة.

إنّ ما سأرويه ليس فيلمًا عربيًا محبوكًا، ولا فيلمًا أجنبيًا كانت أحداثه نتاج بيئة وعادات مختلفة، وإنّما قصة واقعية أبطالها يعيشون بيننا، ويتحركون في إطار زمننا، أحداثها يتابعها الجميع ويتفاعلون معها كمشاهد أمام شاشة تلفاز، ينفعل مع الحدث ولكن سرعان ما ينساه عندما ينتهي المشهد أو يقوم لعمله.

بطلة قصتي أعرفها منذ زمنٍ طويلٍ تقطن في منزل مجاور لحينا، تعمل مصففة للشعر(كوافيرا)، كنت أقصّ شعر ابنتي الكبرى عندها وأشتري منها زيتًا.

قصدتها منذ فترة قبل العيد لأقصّ شعر ابنتي الصّغرى، فاستقبلتني بالتّرحاب، وسألتني بلسانها العذب عن الأحوال، وأجلستني على كرسي قبالتها وسألتني عن القصّة الّتي تعجبني، فأخبرتها بما أرغب. فانصرفَتْ لتحضير ما تحتاجه، ورحت بدوري وبحكم حشريتي أراقب ما حولي، ثلاث كنبات عتيقة تغيّر لونها وشكلها بفعل مرور الزّمن بالرغم من بعض المحاولات الفاشلة لجعلها تبدو أكثر أناقة و ترتيبًا، وستارة على الباب وأخرى على النّافذة أقلّ ما يقال فيهما أنّهما تشبهان السّتائر ولكنّهما نجحتا في حجب الاعين عن موجودات الداخل، ومرآة عُلقّت على الحائط الصَقَتْ على جوانبها وفوقها صوراً لعارضات تصفيف شعر وتجميل.

وما هي إلاّ لحظات حتّى عادت وهي تحمل بيدها عدّة العمل وفي عينيها اختنقت الدموع وتلألأت، لتُضفي عليهما بريقاً أخفى اخضرارهما، معلناً عن تمرد الألم في داخلها، عاجلتُها بالسّؤال عن حال ابنتها وزوجها، فقالت أنهما بخير. لم تقف حشريتي عند ذلك فتابعت قائلة: ما بكِ أرى الكآبة بادية على وجهك؟ أين ابتسامتك التي عهدتها؟

ألمٌ دفينٌ انبرى ليرتسم على شفتيها قائلة لي: لقد سلب الزّمن جوهرها وبقي رسمها، فطبيعة عملي تفرض عليّ ذلك.

ـ لأوّل مرة أجد الأسى متصدرًا ملامح وجهك، هل تغلَّب اليأس عليك لهذه الدرجة؟

ـ كيف لا يتغلّب عليّ وأنا أحيا حياة لا رحمة فيها ولا شفقة.

ـ هل مشكلتك ماديّة أم أسريّة؟

ـ ادمجي الاثنين معًا، وأضيفي العائلة، وارفقي كل ذلك بالوضع النفسي المتدهور، قصتي طويلة، وعمرها خمسة عشر عامًا ولم يبق من هذا العمر ما آسف عليه، ولا يربطني بهذه الحياة سوى ابنتي. صمَتَتْ قليلاً واغمضَتْ عينيها كأنّها تنشدُ استراحة أشبه ما تكون باستراحة المحارب.

لم يطل صمتها اردفت قائلة: أنت تعرفين يا عزيزتي أنني ارتاح للكلام معك لأنّكِ خَبِرْتِ الحياة، وترين في مجتمعنا ما لا أراه، وتسمعين ما لا اسمعه، لأنّك تتواصلين مع النّاس، وتعملين معهم، أما أنا فسجينة البيت ولا يزورني إلاّ البعض لأنّهم يرغبون بمساعدتي، فلا بيتي مرتّب ولا معدّاتي تليق بالزّبائن. قاطعتها قائلة للتّخفيف عنها: لِمَ تقولين هذا؟ إنّ الحديث معك وترحيبك بالزّبائن، ولياقتك في التّصرف، ومهارتك في العمل، هي الدّافع لقدومنا وللتعامل معك،

ولكن أخبريني ما الّذي حصل لتشعري بمثل هذا القنوط؟ فكلّ ما أعرفه أن زوجك كان من دون عمل، وأنّك تتعالجين للإنجاب، وها أنّ الله قد مَنَّ عليكِ بفتاة منحها جمالاً يسحرُ الالباب، وذكاءً مبكراً يذهل من يسمعها ويرى تصرّفاتها. فأجابتني بحرقة: إنّ ما تعرفينه هو الظّاهر، ولكن ما لم أقله لكِ أنَّني أحيا حياة دون مستوى الفقرِ والعوز.

فقلتُ لها بدهشة: كيف ذلك؟ فأنا أرى أنّك تعملين، ولك زبائنك وأصبح زوجك حسب ما علمت يعمل في بيع الخضار الحمدلله إن ذلك يكفي أيّ انسان شرّ الفقر والعوز.

ابتسمت وأعقبت ذلك بتنهيدة جرحت قلبي ومن دون أن تتوقف يداها عن العمل قالت: ما لا تعرفينه إنّ زوجي ابْتُلِيَ بداء(الميسر) لعبة القمار فكلّ قرشٍ يجنيه هو من نصيب طاولة اللعب ولا نصيب لنا فيه، تصوّري كلّ ما أحصل عليه يوميًا منه ثمن ربطة خبز فقط، وعند المساء يحضر لي بقايا الخضر التالفة لأنتقي منها ما يصلح للأكل وما أحصل عليه منها قليل جدًا، دعوته مرارًا وتكرارًا للتّوبة وطلب الغفران لاسيما في شهر رمضان ولكن كلّ محاولاتي كان نصيبها الفشل وحالته من سيّئ إلى أسوأ.

ذات ليلة بعد شجار طويل، وبعد أن طفح الكيل قرّرْتُ العودة الى بلدتي حيث بيت أهلي الّذي فرغ منهما، وفرغت حياتي بعدهما من الدّفء والرّعاية، ولم يبقَ فيه سوى أختي الّتي تعاني من نوبات عصبية حادّة وهي تحتاج للرّعاية والعناية، كنتُ مصممةً على البقاء هناك وعدم العودة لحياة القهر والذّلّ لكنّ إصرار ابنتي المتعلقة بوالدها على العودة وقولها لي أنني السبب في بعدها عنه، إلى جانب انقطاعي عن العمل لأن بيتنا في آخر القرية، كل ذلك جعلني أفكر مليًا قبل أن أقول للسّائق الّذي ارسله ليعيدنا إلى البيت أيّ كلمة. فهو بالرّغم من كلّ علله متعلقٌ بابنته ولا يتذمّر من وجود أختي في المنزل معنا مع أنّ مرضها العصبي خطير ويخافها النّاس.

قبلت العودة مع السّائق موكلة أمري الى الله نصير كلّ مظلوم.

قاطعتُها قائلة: أليس لديك أخوة تلجئين إليهم لمساعدتك والوقوف الى جانبك في محنتك؟

تنهدت مبتسمة وقالت: عندما تقعين يا عزيزتي لن تجدي بجانبك من يمسك بيدك، إنّ لي من الأخوة شابين وأربع أخوات، الشابان لا أراهما إلا في المناسبات فهما يخجلان بفقري حتى أختي المريضة يخافان على أولادهما منها ولا يقدمان لها المساعدة بعد وفاة أهلي، فهي تنتظر موسم الزيتون لتبيع زيته الّذي تشترين منه كلّ سنة لتعتاش بثمنه

وتشتري بعض أدويتها، أما باقي اخواتي عندما لجأت إليهنّ بعد مشادّة حادّة مع زوجي لم يتحملنني مع ابنتي اكثر من يومين، والكلمات نفسها كنت أسمعها منهنّ «عليك بالصبر والتحمّل كلّ النّاس لديها مشاكل ولا يمكننا التدّخل بينكما» واحدة منهنّ فقط تشفقُ عليّ وترسل لي ما يضيق من ثياب على بناتها لأستر نفسي وفقري، فمن يراني بمثل هذه الملابس لا يعرف أنني أعيش في الحضيض وأعاني شظف العيش، ولا يصدّق مأساتي.

عاجلتها بالسّؤال الذي كان عالقاً في حلقي: وأين أهله؟ هل هو مقطوع من شجرة؟

أجابتني بمرارة: لديه إخوة وهم ميسورو الحال، وإنّ من رَأَيتِها منذ فترة عندي بلباسها الأنيق هي أخته، ولكنّهم جميعًا لا يسألون عنه، ولا يساعدونه لتخطي مشكلته، ويكتفون بمواساتي بكلمة «عليكِ بالصّبر لا يمكننا عمل أي شيء». وأنا يا عزيزتي أترفّع عن مدّ اليد إليهم وإهانة نفسي، فهم يرون وضعي المزري ويعلمون كل شيء عن أحوالنا.

تصوري إنّ والدته الّتي رَأَيتِها عندي قبيل العيد الماضي وسألْتني من تكون هذه الّتي تجلس على الكنبة كالأميرة

وأمامها المكسرات والفاكهة وبيدها النرجيلة. أنّها قالت لي:\" كيف ترضين بمثل هذه العيشة المُهينة والمُذِلّة\" فأجبتها: هذا ما أمّنَهُ لي ولدُكِ، وإنّ ما تتلذّذين به ِالآن هو ثمنُ ما جنيْتُه في أسبوع عمل، فأنا منذ دخولي بيته لم أشبع من تعبه، ولم أكتسِ من خيره. فمن يومها خرجت من منزلي ولم تعد.

ومن دون أن أدري سألتها: لَمْ تحتكمي إلى الشّرع ليرشدك إلى ما يمكنك فعله، فأنت كما قلتِ لي تدفعين بدل المأجور، والقسط المدرسي لابنتك، وثمن الدواء لها لأنّه يضنّ عليك حتى بطبابتها، فلا بد من أن يجد لك حلاً لمشكلتك هذه، التفتت نحوي وقالت: إنّ من يقرأ عن حقوق المرأة في الإسلام يدرك أنّ الله كرّمها وعزّزها وأعطاها حقوقاً في الحياة تدفع عنها غائلة الزّمن، وتحميها من جشع المجتمع، وتضمن لها حقوقها. ولكن الممارسة الفعلية على الأرض في مجتمعنا هذا أطاحت بحقوقها وجعلتها رهينة عادات وتقاليد لا ترحم، فيها الكثير من الأمور التي تدفع المرأة لترضى بواقعها وتصمت عوضاً عن الطلاق الذي يعتبر مشكلة بحد ذاته. وإذا حكم لي الشرع بالطّلاق إلى من سألجأ؟ مَنْ سيؤويني أنا وابنتي وأختي؟ من سيحميني من كلام الناّس ولسعات ألسنتهم ووخز نظراتهم وتحرّشاتهم؟ إنّ زوجي لا يقدّم لي سوى اسمه، وهذا لوحده يشكلّ حصانة لي في مثل هذا المجتمع القاسي المهترئ من الداخل الّذي يحيا على المظاهر الفارغة.

عزيزتي إنّنا نساء، كتب علينا أن نولد في زمن قلَّتْ رجالاته وكثرتْ ذكوره، فالرّجولة بما تمثّله من حماية، وأمان، وصدق، ووفاء ومروءة، وحصانة للمرأة من غدر الزمن. باتت في رأيي شبه نادرة فالقصص التي أسمعها من زبائني ليست أقلّ مرارة من قصّتي.

وأخيراً أنهت قصّ شعر ابنتي وصفّفته، وجلست قبالتي بعد أن شبكت أصابع يديها وأسندت وجهها عليهما، اختنقت الكلمات في حلقي، طلبتُ منها شربة ماء، فقامت وأحضرتها لي، فشربت ولكنّ الماء كان كالعلقم، جلسَتْ بقربي وقالَتْ: أعتذر منك لأنّني أثقلْتُ عليكِ بِهمومي ولكنّني أشعر بأنّ هناك من يشعر بي، ويسمع صرخات روحي وأنينها... رَبَّتُ على كتفها وواسيتُها ببعض الكلمات، ومن ثمّ شكرتُها على عملها، ودفعتُ بدل أتعابها، وخرجْتُ من منزلها وأنا أمسكُ بيدِ ابنتي وفي رأسي دوامة من الأفكار تتقاذفني يميناً وشمالاً. وعن غير قصد ومن دون أن أدري رحت أضغط على يد ابنتي حتى صاحت من الألم. فأعادني صوتُها إلى رشدي. وما كان ذلك إلا ردّة فعل على ما سمعت، وخوف دفين على مستقبلها.

إن هذه المشكلة هي واحدة من مئات المشكلات في مجتمعنا الّتي تعاني فيها المرأة من القهر والظلم والإذلال من دون أن تجد لها ناصراً أو معينًا. ولكنّ السّؤال الّذي يطرح نفسهُ.. مَنْ سينتصرُ للمرأةِ الّتي فقدَتِ الحماية الابوية وتعاني من الفقر والذّل والهوان في ظلّ زوج ٍمن المفروضِ أن يكون حصنها المنيع وحريصاً على كرامتها وسعادتها؟

أسئلة كثيرة في خاطري ولكن يكفي هذا السّؤال ليذكر الجميع بضرورة تعليم المرأة، وصونها، وحمايتها، وإعطائها حقوقها كما أراد الله سبحانه وأثبته في كتابه العزيز.