والدي أغلى من بصريّ

01/09/2010
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

في أحدى أيام شهر نوفمبر عام ألف وتسعمائة وثمانين، وبينما كان الطقس بارداً وعاصفاً، أخذتني والدتي معها بزيارة لإحدى الأقارب، يومها كنتُ ما زلت طفلة صغيرة لم أكمل عاميّ الأوّل، فتعرضت للهواء البارد مما سبّب لي المرض، وقبيل مغيب الشمس، إرتفعت حرارتي كثيراً، فقرّر والديّ أخذي إلى الطبيب، ولقد قاد والدي السّيارة بسرعة كبيرة، وبتوتر وقلق رهيب خوفاً من أن يُصيبني مكروه، وقبل وصولهما إلى العيادة بمسافة قريبة، حصل حادث سير مريع حيث أنَّ سيارة والدي إصطدمت بشاحنة كبيرة، كانت تقف على جانب الطريق. هذا الحادث لم يُسبّب أضراراً صحيّة كبيرة لوالديّ، فقط إنكسرت ساق والدي اليمنى وجُرح رأس والدتي، ولكن الحادث سبب لي أذىً كبيراً وهو فقدان كامل بصري، بالمطلق، لا أذكر شيئاً عن هذا الحادث، ولكن فيما بعد عندما كبرت قليلاً، أخبرتني والدتي بجميع هذه التفاصيل، لقد تمَّ عرضي على أفضل الأطباء المختّصين بجراحة العيون، والجميع كان يقول: أنّ لا أمل من أن أُبصر مُجدداً، لإنَّ شبكة العين غير صالحة.

هذا الحادث آلم والديّ كثيراً، وجعلهما يشعران بالذنب وخاصة والدتي، كانت دائماً توقع الملامة على نفسها، ولكن عندما كبرتُ وعلمت بما جرى، قلتُ لها: هذا نصيبي وهذه مشيئة الله عزَّ وجل، لا توقعي الملامة على نفسك ولا تُعذبيها أكثر... أمّا من جهتي، فلقد اعتدتُ على كوني ضريرة، لا أرى الأشياء الجميلة في هذه الحياة، لم أرَ يوماً ما خلق الله من جمال، ولكنّ أمي كانت تصف لي كل شيء بدقة، فكنت أتخيّله أمامي وكأنني أراه، كانت تهوّن عليَّ بكلامها العذب اللّطيف، أنا لا أعرف يوماً وجه أمي وأبي، كنتُ أحاول تخيلهما من خلال لمسي لهذه الوجوه، لم أكوَّن الصورة الصحيحة عنهما، فقط أسمع صوتهما العذب الحنون، وخاصة صوت والدي الذي كان يُشعرني بالعطف والحب عندما يأتي إلى المنزل، كنتُ أنتظر قدومه في الليل، لكي أخبره ماذا جرى معي وماذا تعلّمت بالمدرسة، لأنَّ والدتي كانت قد سجلتني بمدرسة مُختصّة للحالات التي تُشبه حالتي، كنّا نتعلم أشياء كثيرة هناك وبطرق مُختلفة وأساليب مُتعددة، لم أشعر يوماً بأنني مُختلفة عن الباقين، كنتُ أشكر الله دائماً على نعمه الكثيرة علينا وأشكره أيضاً لإنّه لم يحصل لوالديّ أي مكروه أثناء حادث نوفمبر.

مرّت الأيام، والشهور، والسنين وأنا أعيش مع والديّ تحت سقف واحد بأمان وإستقرار، إلى أنّ القدر شاء إنتهاء عُمر والدي العزيز رحمه الله تعالى، بمشيئة إلهيّة تُحتُّم أخذ روحه النبيلة الطاهرة إلى جوار الله تعالى. لم أتصور يوماً رحيله عنا بهذه السرعة وبهذه الطريقة، لقد كانت فاجعة حقيقيّة وصدمّة قويّة أبكتني طويلاً وأحرقت فؤاديّ وجفّفت دموعيّ.

وفي إحدى الليالي التي كنتُ أنتظر سماع صوته الرّنان لأسمع كلامه ونصائحه لي وبعد طول إنتظار لم يصل والديّ فانفجرتُ بالبكاء الشديد حتى إحترق الدمع في عيني، أحرق عينيَّ بالدموع، وغفوتُ دون أن أشعر، غفوتُ لقيلولة قليلة، وبعدها إستيقظت شعرتُ وكأنَّ أحداً أيقظنيّ، نظرتُ حولي وإذ بي أرى كل شيء داخل غرفتي حتى أنني أرى صورة والديّ التي وضعتها على طاولتي من دون معرفة ملامح وجهه يوماً ما، تلك الصورة هي أوّل شيء وقع نظري عليها، أغمضت عيني مُجدداً وفتحتهما من جديد لأرى، هل أنا في حلم أو في يقظة، لقد كنتُ في اليقظة، لقد أعاد ليّ الله نظري فجأة بقدرته الإلهيّة، لربما ليُشفي غليلي من رؤية صورة وجه والديّ، شكرتُ الله وقلتُ بأعماق أنفاسي: يا ليتك يا ربيّ أرجعت لي والدي، ولم تُرجع لي بصري، إنَّ والدي هو أغلى من بصري هو أغلى شخصٍ على قلبي.. وأنا اعتدتُ على عدم وجود بصري ولكننيّ لم أعتدْ يوماً على عدم وجود والدي...