الإلهــــــام
الحلقة الأولى
بقلم مستشار التحرير د. عبد الحافظ شمص
الإلهام، فعلٌ غامض، عُمرُه من عمر الآداب والفنون والعلوم، فسّر العلماء والمبدعون، بحضوره إليهم إبداعاتهم، وأقرّوا بوجوده وحاولوا تفسيره بالعقل وبالمنطق، وقد ربطناه في وجداننا أكثر ممّا ربطناه بالآداب وخاصة الشّعر، لعلاقته الوطيدة بمزاج المبدع وتقلّباته وتطوّراته، ولكن التّطلّع إليه بمعناه الواسع يؤكّد حضوره في صيغ مختلفة في كافة أوجه الحياة، وصولاً إلى التربية والنشأة والسلوك والصّناعة، وأبعد عن تقنيّات المزاج الشخصي.
إننا نتلمّس ماهيّة فعل الإلهام من خلال استعراض تاريخه ودوره وتنوّع أوجهه ومصادره منذ نشوء الحضارات وحتّى حقيقته اليوم كما نراها.
يفترض في الإلهام أن يسبق الإبداع، ولكن من المؤكّد أنّ الحديث عنه لم يبدأ إلاّ بعد ظهور إبداعات عديدة، وخاصّة في مجالات الأدب والفنون.. ولأنّ الإبداع مرتبط بأمور كثيرة، أهمّها المزاج والوعي الثّقافي، والموهبة الشّخصيّة، فقد وَجَد الإنسان نفسه منذ أقدم العصور والحضارات أمام أسئلة عديدة أهمّها.. لماذا يستطيع الشّاعر أن يقول كلامًا جميلاً وموزونًا، فيما لا يستطيع الآخرون ذلك؟.. وأيضًا.. إذا كان هناك مثل هذا الإعجاب بإبداع هذا الشّاعر، فلماذا لا يستمر هؤلاء في العطاء من غير توقّف؟ أو بعبارة أخرى، لماذا تظهر هذه الإبداعات في أوقات مُعيّنة، لا يمكن تحديدها سلفًا، ثمّ تنقطع لفترات غير محدّدة أيضًا؟!
والجواب عن هذين السّؤالين كان واحدًا.. الإلهام.
ومنذ عصر الإغريق وحتّى يومنا هذا، لم يغب الحديث عن الإلهام ودوره في بعض الأُطر المحدّدة.. وقد شهد مفهوم الإلهام تبدّلات أساسيّة ما بين الخرافات والحقائق العلميّة في التربية الحديثة، كما تنوّعت مصادره، ليس فقط بتنوّع الثّقافات وتعاقب الأزمنة، بل أيضًا من شخص إلى آخر في الزّمن الواحد والثّقافة الواحدة...
من بين كل مجالات الإبداع فالشّعر هو الذي يحتكر القسم الأكبر من الحديث عن الإلهام ودوره في حياة الموهوبين.
يقول غوستاف يونغ، مؤسّس علم النفس التّحليلي،«إنّ المظهر الإبداعي للحياة الذي يوجد أوضح تعبير عنه في الفنّ، يَسْتَعْصي على كلّ محاولات الصّياغة العقليّة، وذلك لأن أيّ ردّ فعل على أيّ مثير من المثيرات، يمكن تفسيره سببيًّا بيسر.. أمّا الفعل الخلاّق، وهو النّقيض الكامل لردّ الفعل المحض، فسيظلّ إلى الأبد مستعصيًا على الذّهن البشري...»
نشأة مفهومه في الحياة الإغريقيّة
قبل سقراط وأفلاطون وأرسطو، واختلافاتهم في دور الإلهام، على صعيد الإبداع الشّعري الذي نتطرّق إليه بشيء من التّفصيل، كان الإغريق قد عرفوا من الإبداع الأدبي والفنّي ما يستوجب تفسير ظهوره على أيدي عدد من النّاس في مرحلة من المراحل، وقد ردّوا ذلك، جريًا على عادتهم، إلى عدد من الموحيات التي اشتهرت في ذلك الزّمان، كالموسيقى، والمتحف، أي بيت الفنون.
ولم يحفظ لنا التّاريخ ظهور الملهمات بدقّة، ولكن من المرجّح أنّ ذلك كان قبيل النّصف الثاني من الألف قبل الميلاد.. وما نعرفه أنّ عدد الموحيات كان يتبدّل من وقت إلى آخر، كما أنّ اسماءها كانت تتبدّل وكذلك وظائفها.. وكلّ واحدة منها كانت مختصّة بإلهام نوع من أنواع المعرفة، كـ«ليوبي» للشعر الملحمي، و«كليو» للتاريخ، و «إراثو» للشعر الغزلي، و«أوتيري» للغناء والإنشاد الدّيني، و«ميلبومين» للمسرح التراجيدي.. إلخ...
ومن هنا يتّضح أنّ الإغريق نظروا إلى الإلهام، على أنّه فعلٌ بين شخصين، أحدهما مُتخيّل وهو الملهِم، والثاني حقيقي وهو المنتج والملهَم.. ولكنّنا بتنا نعرف اليوم أنّ مصادر الإلهام في الثّقافات القديمة، كما هو الحال في عصرنا هي أوسع من ذلك.. وما كان يُصوَّر قديمًا، وربّما لا يزال يُصوَّر حتّى وقتنا الحاضر عند بعض الشّعراء، على أنّه همسٌ من مُتحدّث عُلويّ في أُذُن مستمع من البشر، صار اليوم مع تطوّر العلوم، وخاصّة مجال التربية مُجرّد مُحفّز يُنشّط العقل البشري في اتّجاه مُعيّن، من طريق جمع معطيات مختلفة وَصَهْرها مع بعض الإضافات، لإبداع فكرة جديدة أو نتاج ملموس جديد لم يكن موجودًا من قبل.. وبهذا المفهوم العلمي والعصري للإلهام، يمكننا أن نستكشف حضوره المؤكّد ودوره في كلّ عمليّة إبداع، ليس فقط في مجالات الآداب والفنون، بل أيضًا في الفلسفة والطبّ والصناعة وكلّ حقول المعارف الإنسانيّة.
في العدد القادم إن شاء الله نكمل موضوع الإلهام في القرآن الكريم والفرق بينه وبين الوحي.