حنين إلى قريتي

29/9/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: حماده علي عمرو

هناك تحت الخباء الأخضر تحت السنديان والزيتون وكروم العنب والتين تستلقي قريتي.

جمعها الله سبحانه من طود الأرض ووديانها، سبخها من تربةٍ سنَّها بالماء حتى خلُصت، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول وألوان وفصول، فكانت خلاصة جمال من عصارة الروعة، يبللها نهر عند أطرافها تغتسل الحياة منه دوماً، وترى الشمس فيها شاخصةً خلف التلال تشق ستار الصبح لتلقي تحية يوم جديد تفوح منه ريح صنوبرٍ وتعلن دفئاً تسكبه ممزوجاً بنورٍ مخملي يرسل طيفاً من ذكريات طفولةٍ تركض في الريح بين الحفاف وخلف التلال تحوك من طلائع الغربة ضحكات لا يعلو صداها سوى الطير المغرد في أرجاء السماء.

وترى النسيم إذا تراقص إعتصر الطيب في كأسه، وأسرى بك إلى عزةٍ همَّ بها شموخ جبلٍ يقابل جبلاً يتعانقان في وادٍ ينضح رحيق ذكرى مدونة على جذع بيلسانة يرضعها النحل معلناً مملكة الأقوياء.

هي المعيصرة قريتي، تلك القابعة في قضاء كسروان الفتوح، تباركت من أحفاد عيسى وسطّرت إيماناً بقرآن مُحمّد فكانت مثل طوفانٍ تجلجل في عروق الصخر، وماءٍ تسلل إلى كهوف الطبيعة المخبأة بين صفحات الجبال تروي تاريخ آل عمرو وعائلات أخرى دونت مواقف عزٍ وبطولة رجال شيدوا صروح الحُبِّ والتعايش بين أبناء القضاء.

هي المعيصرة أنموذج عطاء تقمص أجران معاصرها الشاخصة كسيل ينهمر فوق سطوح الحضارات يقارع الزمان، فيها تركتُ طفولتي ترتع تحت أوراق الخريف وزخات المطر، وخلف الصخور أضعتُ أقدامي تركضُ بين عبق الصِّبا، هناك كانت الشمس تعلن ولادة حياة، والقمر يعلن عن ترهل فارس خاض ملاحم الشباب في عراء الليل.

تالله أحسُّ اليوم بأني جثة هامدة في براد الموت مجرد من نفسي مسلوب الوجود، مسجوناً في قفص الضوضاء والفوضى، أتوسم العمر مراهناً الخلاص من مدينة الأشباح الداكنة والعودة إلى أحضان الكروم لأقطر ما بقي من العمر على فيافي النور، ولأحرق البخور على مذابح الحنين.

هناك في قريتي كانت ولادتي تُشَدُّ إلى أفقٍ عنيد لا يعبأ بدعابات السراب، هناك كانت طفولتي تمتشق من مواقد التنور عيشاً وتتوسد الجنادل، هناك كان شبابي يبرز إلى شطر البسيطة يتمرغ بالرجولة، هناك في قريتي إزداد الربيع خلوداً نشواه كصيادٍ أدمن غبار الأديم في كوخٍ هجرته دورة الأرض فبدا ينبض من ولاية النور ألحاناً تداخل في إيقاعها حفيف الغصون.

أما هنا على مدرج المدينة، يغتالك العجز ويجعل للحنين صورةً تناصر دواخين المواقد وقرميد السطوح من بعيد.

ايها العجز كفاك تسلب منا عزائمنا، وكفى بالعمر ثمناً قاسياً يشدُّ منَّا أياماً فيسلبها ويقتلها، إني أعتزم الرحيل من قبري أسافر من جديد إلى برزخ قريتي أصدح أنفاس الحياة وألوك بمقلتي أطباق الحدائق مُعلناً التمرد على دروب الإزدحام المعلبة، فالطريق ما عاد طويلاً، تراني أنتظر وصولي قبيل رحيلي وأعلن إنتماء دمي إلى شجيرات الصنور والسنديان ومساكب النعناع والزعتر وهدير السواقي.