وظيفة الشعر في تكريس منظومة القيم الثقافيّة(1)

29/9/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: البروفيسور عاطف حميد عوّاد(2)

الشعر هو روح اللّغة، وعطر الثقافة ومبدعها، هو وظيفة جوهرية في الحياة بقدمها وتجدّدها، إنّه ينشّط الخيال، ويبدع في العلوم والفنون وأساليب الحياة، إنّه يجدّد شباب اللّغة ويزوّدها بتقنيات حديثة للتعبير، فهو الرقي بالعواطف الإنسانيّة وبتنميّة المشاعر النبيلة، وبه نحافظ على منظومة القيم والمثل العليا لأبناء الثقافة العربيّة، وتعميق الصلة بالتراث الأدبيّ والدينيّ والإنسانيّ.

الشعر قد يخبو صوته لكنّه لا يموت ولا يفقد روحيته، فالعربيّ منذ أنّ وجد فهو ـ بطبيعته ـ مسكون بالشعر، يحتاج إلى أن تستفزّه المعطيات وتستحثّه هذه القيم الأدبيّة ليعلن تفاعله بشكل إيجابيّ ومثمر. فهو من الفنون العربيّة الأولى عند العرب وبرز هذا الفن في تاريخهم الأدبي منذ أقدم العصور إلى أن أصبح وثيقة، يمكن من خلالها التعرّف إلى أوضاع العرب وثقافتهم وأحوالهم وتاريخهم وعاداتهم وقيمهم وتمرسوا في أجناسه وأنواعه وهي القوالب العامّة التي استقر الشعر عليها منذ نشأته، أو بعبارة أخرى هي الأشكال الأدبيّة التي يعبّر فيها الشعراء عن مشاعرهم وأفكارهم، وقد انقسمت هذه الأجناس إلى أربعة هي:

ـ الشعر الغنائيّ

ـ الشعر التمثيليّ

ـ الشعر القصصيّ أو الملحميّ

ـ الشعر التعليميّ

أمّا القيم فهي الثبات والدوام، لا تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان وهي مُطلقة رغم محاولات الوضعيّة المنطقيّة وغيرها من المذاهب الخلقية التي تصورها على أنّها نسبية، وذلك الفهم الخاص للقيم ليس مُسلّماً به في إطار الثقافة العربيّة ولا عند أصحاب الثقافة العربيّة الإسلاميّة.

قد يبدو للبعض أنّ القيم تتأثر بمؤثرات الزمان والمكان ومتغيّراتهما، فلكلّ عصر قيمة ولكل مجتمع قيمة، وأعتقد أنّ هذا التأثير نسبي ونادر، وربّما يكون إيراده لإزالتها أو لإقرارها كقيم ثابتة غابت عن المجتمع، وقد يحتاجها في لحظة تاريخيّة معيّنة.

الأصل إذاً، أنّ القيم ثابتة دائمة يقبلها المجتمع ويقاس عليها، فهي إرشاديّة معياريّة حاكمة على ضروب النشاط الإنسانيّ الشعري والأدبيّ، بالصحة ما اقترب ذلك النظام من إطارها وبالخطأ والفساد ما ابتعد هذا النشاط عن نطاقها.

تجلّت مساحة ساخنة بين رجال الخُلُق والإصلاح والدين، وبين عدد من الشعراء والأدباء، فيحاكم الإبداع محاكمات مطوّلة نتيجة الثقافة والقيم والقضايا المراد اعتمادها، وكذلك كم قرأنا وسمعنا من دفاعات مطولة مجيدة عن الحرية وعن حق الأديب في التمرد الدائم وأن الخنوع والخضوع لقيم الجماعة هو مرادف لقتل الإبداع ومظهر واضح لموت الأدب.

سوف يستمرّ الصدام الأزليّ بين الثابت والمتحوّل بين القيم الثابتة والإبداع المتحرّك، فمن الممكن أن يقود الإبداع القيم فيُرسي قيماً؛ أهملت أو يزيل عنها التراب، وفي قول أبي تمّام مثل واضح حول أهمية القيم المنبثقة عن القضايا الشعريّة ووظيفة الشعر بشكل خاص:

ولولا خِلالٌ سنّها الشعرُ ما دَرى

بناة العلا من اين تُؤتى المكارم

فقيم التمسّك بالأرضِ والدفاع عنها ماتت لمدة من الزمن، ثم أعادها الإبداع إلى الحياة قويّة مؤثرّة، وثمة قيم أخرى ما زالت سائدة لكنها سلبيّة حاربها الإبداع وقد يتمكن من القضاء عليها.

علينا ألاّ ننسى أنّ القيم هي مجال عمل الأدب الحقّ الجمال، وقد يصطدم الإبداع بتلك القيم أو بفرع منها أصليّة وثابتة. فالأسئلة كثيرة وهنا تطرح: هل يمكن أن نفسح للإبداع الطريق أم يجب أن نضحّي به من أجل القيم؟! وما هي وظيفة الشعر منذ العصور المنصرمة إلى يومنا هذا؟ وهل تختلف بناءً للقيم واستناداً لرؤية الشاعر وتجربته وبيئته؟؟.

نجد للشعر وظائف متعدّدة بحسب الخلفيّة الثقافيّة والمقياس النقدي الموجه لرؤية الناقد، وقد تختلف وظيفة الشعر بإختلاف شاعرها وبيئته ومعرفته، وتمتدّ جذورها إلى قلب الذهنيّة التي أنتجب هذه الثقافة، وبالتالي إلى عمق الثقافة والحضارة، وتتعدّد حولها الإجابات بتعدّد المداخل النقديّة، انطلاقاً من إشكالية تكمن في الأسئلة أعلاه؛ عمّا اذا كنا نبحث عن المنفعة في الشعر لإبراز القيم الثقافيّة الكامنة في نفوسنا أم لغاية الفنّ والجمال وإظهارها؟

ومن الإجابات عن هذه الأسئلة المركزيّة تلك التي أطلقها أفلاطون، حين أعلن مدينته الفاضلة، فاستبعد منها الشعراء، خوفاً من أنْ يحوّلوا الشعر إلى المرح والهزل، فكان الشعر معه بلا وظيفة، ونرى أرسطو قد ربط وظيفة الشعر بالطبيعة الإنسانيّة في بحثها عن المتعة والإحساس بالجمال، فقال:\\\\\\\" يبدو أنّ الشعر قد ولَّده سببان راجعان إلى الطبيعة الإنسانيّة. أمّا الجاحظ فيعبّر عن ذلك، بقوله:« طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يتقن إلاّ غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلاّ إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا يتقن إلاّ ما اتّصل بالأخبار، وما تعلّق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلاّ عند الأدباء الكتاب كالحسن بن وهب، ومحمد عبد الملك الزيات»(3). أمّا الأخفش العالم اللغوي والنحوي الصارم فيصل وظيفة الشعر بتيسير تعلم قواعد اللغة العربيّة والإنضباط إليها، لذلك أخرج من حرم الشعر كل بيت شعري ينتهك قواعد سيبويه. وكذلك الأصمعي جعل وظيفة الشعر جمع الغريب من اللّغة وتتبّع أخبار العرب وايامهم، كما هو الشأن في شعر امرئ القيس وزهير والنابغة.

برزت إشارات واضحة تحدّد قيم الشعر من خلال مقاييس معرفيّة مختلفة، وتعددت وظائفه في التراث النقدي للأدب العربيّ، فلذا وجب تتبّع الخلفيات الثقافيّة والمعرفيّة في توجيه الشعر وتحديد وظيفته في كلّ مرحلة من مراحل هذا التراث.

وظيفة الشعر في المرحلة الجاهلية تتلّخص في حماية الشاعر لعشيرته وقبيلته والدفاع عنها والذَّود عن قيمتها الأخلاقيّة والإنسانيّة والإجتماعيّة، فيتّخذ الشاعر دور لسان القبيلة فيحمي عرضهم، ويخلد بلاءهم ويشارك في المعارك راشقاً العدو بسهام شعريّة لها قوة خارقة، ويصنع معرفتها وعلمها، فيتغنّى بأمجادها وأنسابها وبمعتقداتها، إنّه مرآة تنعكس فيه الصورة المثالية للجماعة القبليّة. ولهذا نظر عرب الجاهلية إلى الشاعر نظرتهم إلى الكائن النوراني، « فكان الشعر ديوان علمهم ومنتهى حكمهم »(4)، لما فيه من حكمة وعمل في قلوب الملوك والأشراف، وتأثير في نفوس أهل البأس والنجدة، وفعل في عقول أهل الأنفة والكرم.

مع مرور الزمن بدأت تتحوّل وظيفة الشعر وإضاعة القيم الثقافيّة، فمالت إلى التكسّب المادّي، وأفسدت بذلك الكثير من الشعراء وأنزلتهم من مكانتهم المرموقة، ووظيفتهم التوجيهيّة الثقافيّة، إذ أصاب التغيّر والتحوّل العلاقات الإجتماعيّة والإقتصاديّة والمعرفيّة، وبخاصّة مع ظهور مراكز الثراء القبلي المرتبطة بالسلطة والقوة وأهمية اللّسان الناطق باسمها والمعبّر عنها. فدخلت العلاقة بين الشعراء وسادات القبائل أفق الربح والخسارة، « وعرف أمثال زهير بن ابي سُلمى عطايا هرم بن سنان التي وإن لم تفسد زهيراً فقد أفسدت غيره على نحو النابغة والأعشى»(5). وبدأ التحوّل من وظيفة الشعر الثقافيّة إلى صورة الشاعر المتكسّب الذي يتّحد بمصالحه الخاصّة.

 

 

ومع دخول الإسلام أصبح الشاعر مدافعاً عن العشيرة الدينيّة وتراجع نمطه القبليّ في بداية الأمر لصالح الدعوة الإسلاميّة، فكان دوره التصدّي لخصوم الدعوة، والإشادة بالقيم الدينيّة الجديدة، ووصف الفتوح، ورثاء الشهداء، ومثلَّ هذه التجربة شعراء كثيرون، منهم: عبدالله بن رواحة، حسان بن ثابت، وكعب بن زهير.

في ما بعد برزت الأحزاب السياسيّة فقد كان لكلّ حزب سياسيّ شاعر يتحدّث بلسانه، ويدافع عن أحقيته في الخلافة، فكان الأخطل شاعر الأمويين، والكميت شاعر الهاشميين، وتلّخصت بذلك وظيفة الشعر خلال هذه المرحلة، في التعبير عن المعايير الثقافيّة السائدة.

أمّا في المرحلة العباسيّة، فقد نزع الشعر إلى خدمة الطبقة الحاكمة والارستقراطية، وأصبح الشاعر مستخدماً لدى فئات المجتمع المستهلكة للثقافة، وتحوّلت بغداد إلى نقطة جذب قوية، شهدت إقبالاً كبيراً للشعراء، أمثال « دعبل الخزاعيّ وأبي نواس وابي تمام والبحتري والجاحظ، بحثاً عن اتخاذ مسار مهني أو شهرة أو تقرّب من البلاط العباسيّ، الذي اتسع هرمية وتنظيماً أكثر من بلاط سابقيهم الأموي»(6)، كما توطدت خلال هذه المرحلة مؤسسة حماية الأدب التي تضمن للشاعر وجوده وتحدّد له وظيفته وقواعد نشاطه.

إنّ وظيفة الشعر قد تغيّرت، بتغيير الظروف السوسيوثقافيّة المحيطة بالشاعر، فخسر الشاعر الأولويّة التي كان يتمتّع بها والتي تحرص على عروبة قيمه وثقافته، وعلى حماية الأدب التي تضمن للشاعر وجوده وتحدّد له وظيفته وقواعد نشاطه.

إنّ وظيفة الشعر قد تغيّرت، بتغيّر الظروف السوسيوثقافيّة المحيطة بالشاعر، فخسر الشاعر الأولويّة التي كان يتمتّع بها والتي تحرص على عروبة قيمه وثقافته، وعلى حماية الأدب من خلال تثبيت التي ينبغي الإمتثال لها. من ثُمّ تطرق الشعر إلى مواضيع عامّة وهموم قوميّة ودينيّة تخدم البيئة والمرحلة الزمنيّة آنذاك، لكن الثقافة العربيّة، تردّت خلال قرون طويلة، باضمحلال مصدرها الشعري وغايته، حتى عصر النهضة، فعاد من يحيي دور الشعر والشاعر، وكان محمود سامي البارودي من أبرز هؤلاء الشعراء، إضافة إلى مدارس الشعر العربيّة المتعدّدة. وبعد حركة الحداثة الشعريّة، وقصيدتي التفعيليّة والنثر، لا زال الكثيرون يطالبون الشعر بوظيفة محدّدة، ضمن معايير ثقافيّة تبعد تسلل الكثير من قليلي الموهبة والمتسلقين على سلم الشعر بمنظومة قيمه الثقافيّة.

أخيراً، لنعترف أنّ المصطلحات الغامضة والغائيات كبلت الشعريّة العربيّة، وأنّ كلّ شاعر أضرمت تجربته الثقافيّة من قيمه، شرط أن يكون بعيداً عن السلطة والوظيفة والمصلحة، وبالتالي يبقى النّاس محصورين في فهم وظيفة القصيدة ودورها إذا كانت بعيدة عن سطوة المفاهيم المضللة، والغائيات المغرضة.

استناداً إلى ما تقدم، يطرح أمامنا السؤال التالي: هل سيبقى دور الشاعر في الثقافة العربيّة دور المغذّي لقيمه ومبادئه، أم أنّه سيجعل روحه منبعاً لشعره الجمالي؟.

هل أنّ مناهلَ المعرفةِ الإنسانيّةِ تزدادُ أَلَقاً بِخصوصيةِ الشعرِ وأنماطهِ؟

هلْ أنَّ مَدارِكَ القيمِ تَتَأطّرُ تحوّلاتُها المُخْتَلفةُ في جوهرِ الشعرِ ومبانيهِ؟

هلْ أنَّ مفاعيلَ التراثِ الثقافيِّ تتحمّلُ بحكمة الشاعرِ الفذِّ؟

هل الوظيفةُ تَصْنَعُ التداخلَ أمْ تُقدمُ التَّجانسَ أمْ تَعَنونُهُما؟

هل التضادُ الثقافيُّ أسقطَ عنْ وظيفةِ الشعرِ حِراكَ الدورِ؟

أسئلةٌ كثيرةٌ لتساؤلاتٍ مُتْعددةٍ في هيامِ روحِ الشعرِ المستقرِّ منْ روحٍ انطلقَتْ فعبَّرَتْ

وكانَتْ منها الوظيفةُ والتحوُّل وعلينا الدورُ والإستمرارُ.

 

الهوامش:

(1) محاضرة أُلقيت في مؤتمر في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والإجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة، برعاية وزارة الثقافة ورئاسة الجامعة اللبنانيّة. يوم الثلاثاء الواقع فيه 16 حزيران 2015م.

(2) عضو الهيئة التنفيذيّة في رابطة الأساتذة المتفرّغين في الجامعة اللبنانيّة.

(3) الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، ت. عبد السلام هارون، دار القمر، ط.4، ص 76.

(4) شارل بلا، تاريخ اللغة والآداب العربيّة، تعريب رفيق بن، دار الغرب الإسلاميّ، ط. 1، بيروت، 1997، ص 86.

(5) د. جابر عصفور، غواية التراث، ص 115.

(6) جمال الدين بن الشيخ، الشعرية العربيّة، ترجمة مبارك حنون، الدار البيضاء، المغرب، ط. 1، 1996، ص 71.