إطلالة على ملكوت الله (الحلقة الأولى)

15/12/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: مدير التحرير المسؤول الشيخ الدكتور أحمد قيس

 

إنطلاقاً من قوله تعالى: }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{ سورة فصّلت (الآية 53).

أحببت أن أتوجه بهذه المقالة حتى يتمكن العدد الأكبر من القرّاء الأعزاء من التعرف على الله وملكوته من خلال التعرف على آثاره عزّ وجل، وخصوصاً في هذا الوقت الذي نعيشه والذي ساهم طغيان المادة فيه، والإقبال على الدنيا وزخارفها بشكل يكاد يكون غير مسبوق، الى نسيان المبدأ والمعاد وتحديداً الآخرة، والتي يمكن التعبير عنها بأنها مرحلة ما بعد المادة، والتي يقرُّ بها ويعترف بها كل أصحاب الرسالات السماوية.

 

وبما أن الإنسان مخلوق مادي وروحي في آنٍ معاً، فهو يأنس عادة بما هو من جنسه وطينته أي المادة، وينفر ويبتعد عن الميتافيزيقي أي ما وراء المادة، إلاّ إذا أمكن الإستدلال على ذلك بأمثلة مادية تحاكي الفكرة المراد الإستدلال عليها أو التعبير عنها.

وهذا المنهج ـ أي الإستعانة بالمحسوس كمقدمة للتعبير والشرح عن اللا محسوس ـ هو من أهم المناهج التي استعملها القرآن الكريم وخصوصاً في المسائل الغيبية والعقدية، ولا مجال الآن لإستعراض نماذج عنها ولكن يكفي الإشارة الى الآية 22 من سورة الأنبياء، }لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ{ كما استعمل هذا المنهج العلماء والمتكلمون والفلاسفة عبر التاريخ وإذا ما أردنا طرح مثال على ذلك يكفي الإشارة الى برهان الفيلسوف ابن سينا حول النفس والذي يعرف ببرهان الإنسان الطائر.

وانسجاماً مع هذا المنهج المذكور، وبالإعتماد عليه بعد الله سبحانه وتعالى، سوف نقوم بإطلالة على جزء من ملكوت الله عزّ وجل، والتعرف إلى هذه المملكة العظيمة، وعلى هذه القدرة الجبّارة للمولى سبحانه وتعالى، من خلال الدراسات العلمية للكائنات المتناهية في الصغر صعوداً الى أعظم وأكبر هذه الكائنات، حتى نصل بنهاية هذه الرحلة العلمية، وهذه النزهة الشهودية، الى مرحلة القطع واليقين بمضمون ما قاله الشاعر: وله في كل شيءٍ آية تدل على أنه واحد.(1)

وعليه، فإننا سنبدأ رحلتنا هذه مع أدق وأصغر وألطف الكائنات المادية، والتي تعيش معنا وبيننا، عنيت بذلك، الجرثومة أو ما يعرف بعالم الجراثيم أو البكتيريا.

يقول العلماء:(2) بأن الجراثيم او البكتيريا كائنات حية دقيقة وحيدة الخلية وهي تتجمع مع بعضها وتأخذ أشكالاً متعددة مثل عقد أو سبحة فتسمّى مكورات عقدية أو على شكل عنقود فتسمّى عنقودية. راجع الصورة رقم (1)

تتراوح أبعاد البكتيريا بين 0.5 ـ 5 ميكرومتر مع أن التنوع الواسع للبكتيريا يمكن أن يظهر تعدد أشكال كبيرة جداً. تدرس البكتيريا في ما يدعى علم الباكتريولوجيا الذي يعتبر فرعاً من فروع علم الأحياء الدقيقة. راجع الصورة رقم (2).

إنّ بيئات البكتيريا متنوعة جداً فهي قادرة على العيش في أي مسكن أو بيئة مناسبة على وجه الأرض حتى التربة والمياه العميقة وقشرة الأرض حتى ضمن بيئات ذات نسب عالية بالفضلات النووية والكبريتية الحمضية. عادة يوجد حوالى عشرة مليارات خلية بكتيرية في الغرام الواحد من التربة ومئات الآلاف من الخلايا في الملمتر المكعب من ماء البحر. ضمن دورات البيئة تلعب البكتيريا دوراً أساسياً وحيوياً في تدوير المغذيات البيئية، فالعديد من الخطوات المهمة في دورة التغذية تتم بواسطة البكتيريا، أهم هذه الخطوات تثبيت النتروجين في الغلاف الجوي.

تعتبر البكتيريا أيضاً مكوناً طبيعياً من مكونات الجسم البشري فهناك من الخلايا البكتيرية على الجسم البشري ما يفوق عدد خلاياه نفسها، فعلياً مجمل الجلد عند الإنسان والفم والجهاز الهضمي مليء بالبكتيريا وهي بمقدار ما يشاع عن ضررها وتسببها بالأمراض، مفيدة أيضاً للصحة حيث تساعد على الهضم، لكنها أيضاً تسبب أمراضاً خطيرة مثل الهيضة والسل. تاريخياً تسببت البكتيريا بأمراض خطيرة مثل الطاعون والجذام لكن اكتشاف المضادات الحيوية خفف كثيراً من هذه الأخطار وقلّص أعداد الوفيات الناتجة منها.

للبكتيريا أهمية صناعية حيث يستفاد من عملياتها البيولوجية لإجراء ما يصعب اجراؤه صناعياً مثل معالجة المياه القذرة ومؤخراً إنتاج المضادات الحيوية وغيرها من الكيمياويات.

إلا أن تطور علم الأحياء الدقيقة كشف عن تفصيلات تفرق بشكل واضح بين الفيروسات والبكتيريا والفطريات.

وقد نشرت أول رسوم للجراثيم عام 1676 بواسطة الهولندي أنطوني فان ليفينهوك، كائنات بدائية النواة (لا تحوي غشاء نووياً ومكونات النواة مبعثرة في الهيولى) جسمها يتكون فقط من خلية واحدة تقوم بجميع الوظائف الحيوية. تنقسم الى شعبتين: شعبة البكتيريا، شعبة البكتيرية السيانية (البكتيريا الخضراء المزرقة). تتبع مملكة البدائياتMonera، توجد في الهواء والتربة وأمعاء الإنسان والفم وعلى سطح الجلد، كما توجد في معدة الحيوانات المجترة. نستدل على وجود البكتيريا من خلال نشاطها المتباين حيث لها أنواع مختلفة وهي كالتالي:

1- صناعة الغذاء (اللبن).2- إفساد الغذاء (التعفن)3 ـ تخصيب التربة (الأسمدة)4 ـ إهلاك الزرع (الأمراض).

ومن العلماء الذين كان لهم دور في اكتشاف البكتيريا: ليفنهوك، لويس باستور، روبرت كوخ.

بيئة البكتيريا

نجدها في كل مكان تحت الأرض الى مسافة 400 م ـ ارتفاعات شاهقة في الهواء، في درجات حرارة عالية حول فوهات البراكين ـ في المناطق القطبية، داخل أجسام الكائنات (الحيوانات في الجهاز الهضمي والتنفسي) غذاؤها هو ثاني أكسيد الكربون وتنتج أوكسجيناً هذا في حالة البكتيريا اللاهوائية بينما البكتيريا الهوائية تحتاج للأوكسجين مثل البكتيريا المستخدمة في بعض أنظمة معالجة مياه الصرف الصحي.

الإنسان مؤلف من بكتيريا

علينا أن نأخذ بعين الإعتبار البكتيريا التي تعيش في الإنسان، من أجل فهم آلية عمل الإنسان، إذ ان مجموع هذه البكتيريا وجسد الإنسان يشكلان جسما مركباً واحداً، وعندما نتكلم عن البكتيريا فنحن نتكلم عن عدد هائل من الكائنات إذ يعيش في جسد الإنسان الواحد عدد من البكتيريا أكبر بعشر مرات من مجموع عدد خلايا الجسد نفسه. بل واكثر من ذلك، فمجموع الجينات التي حصلنا عليها من البكتيريا أكبر بمئة وخمسين مرة من الجينات التي ورثناها عن أمّنا وأبينا.

بمعنى آخر، ومن الناحية الجينية نحن بشر بنسبة اقل من واحد بالمئة.ومع ذلك فنحن الآن فقط بدأنا ننتبه الى دور البكتيريا في نشوئنا والتأثير علينا.

ليس فقط ان الإنسان يتضمن عشرة بليونات من البكتيريا وإنما هذه البكتيريا أيضاً تحتوي بدورها على فيروسات، أي ان الفيروس والبكتيريا والإنسان يعيشون في نسق واحد. راجع الصورة رقم (3)

طبيعة عمل البكتيريا

البكتيريا تساعد جهاز الهضم على تفكيك الطعام واستخراج الطاقة والمواد الغذائية من الطعام والتي بدونها لن نصل إليها أبداً. ولكنها أيضاً تسبب العديد من الإلتهابات في الأمعاء. غير أنها تلعب دوراً رئيسياً في نشوء المناعة وحتى نشوء الجهاز العصبي إذ يبدو أن للبكتيريا دوراً في تشكيل الدماغ.

وجود البكتيريا في الأمعاء معلوم من زمن طويل ولكن المشكلة انه من الصعب الوصول اليها وتحديدها مثلا، قطرة ماء من بحيرة تحتوي على الكثير من البكتيريا يمكن رؤيتها بالميكروسكوب وحساب عددها. وفي التسعينيّات بدأ العلماء إستخدام علم الجينات لدراسة الفروقات الجينية بين البكتيريا. في الواقع تختلف البكتيريا عن بعضها في جين خاص يبني جزءاً مركزياً من الخلية هو الريبوسوم، هذا الجين مميز لكل فصيلة من البكتيريا، ومن خلاله يمكن معرفة انتماء كل البكتيريا في النظام الإيكالوجي الطبيعي.

أحد الإكتشافات الكبيرة التي جرت في العام 2011 من قبل فريق سويدي Rochellys & Sven Pettersson Diaz Heijtz من معهد كارولين ان بكتيريا الأمعاء تتحكم في نمط الحياة الشخصية عند فئران المختبر. ويقول العلماء أنهم يرون مؤشرات على ان البكتيريا تؤثر على الذاكرة أيضاً ولكن حتى اليوم لا يوجد براهين حاسمة.

الكثير واعون للعلاقة بين الجهاز الهضمي والدماغ. التوتر والقلق يؤثران على جميع فعاليات الجسم باعتبار ان الدماغ يتحكم في انتاج الهرمونات والإشارات الإشعارية. ولكن كيف يمكن للبكتيريا التحكم بما يحدث في الدماغ؟

أحد التفسيرات المحببة ان البكتيريا تؤثر على عصب nervus vagus وهو العصب الوحيد الذي يبدأ في الدماغ وينتهي في المعدة وهو أحد الأعصاب القحفية. ولكن لا نعلم آلية التأثير على الدقة.

ففي منطقة الأمعاء مسكن لبلايين البكتيريا التي تشكل بيئتها الحيوية الخاصة ليجري الإنسجام بين آلاف الأنواع والأجناس والعوائل، بحيث يمكن تشبيهها بمنظومة الغابات الإستوائية.

والبكتيريا داخل كل عائلة تتكون من العديد من الأنواع وقادرة على التأثير على بعضها بعضاً بطريقة، حتى الآن غير معروفة. وأن عالم البكتيريا داخلنا معقد ولا زال مجهولاً للغاية.

وهنا لا بدّ من تذكر قوله تعالى:}لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{(الأنعام الآية -103 )

وبناءً عليه، وإذا ما أردنا الإرتقاء صعوداً من عالم البكتيريا والجراثيم الى عالم المحسوس المباشر من حولنا لوجدنا الآلاف والآلاف من المخلوقات المختلفة والمتنوعة والتي لا يعلم بها ولا بعددها إلا الله سبحانه وتعالى. ففي كل يوم تطالعنا الأخبار العلمية عن إكتشاف فصائل جديدة في عالم الطيور أو الحشرات أو الأسماك أو ما شاكل، ناهيك عن الإنسان وما يتميز به من قدرات عقلية مذهلة والتي بدأ العلم الحديث بكل ما أوتي من تكنولوجيا حديثة ومتطورة بإكتشاف بعض هذه الجوانب من القدرة العقلية عند الإنسان. كذلك الأمر بالنسبة الى القدرات الحسية عند العديد من الفصائل الحيوانية المختلفة والتي تعمل كلها وفق نظام كامل وشامل وهادف في آنٍ معاً.

ورغم المستوى العالي الذي بلغه الإنسان من خلال التطور التكنولوجي والصناعي الحديث إلا أنه ما يزال عاجزاً عن إمكانية محاكاة أو صناعة جهاز إستشعار(سونار) كالذي تمتلكه الدلافين لمعرفة محيطها من خلاله وهذا على سبيل المثال وليس الحصر.

وبغض النظر عن هذه الأمور السابقة فإن الإنسان مع ما وصل إليه في عصرنا الراهن هو كائن صغير ومتناهٍ في الصغر كحال «الريبسوم» في الجين الخاص لفصائل البكتيريا ـ التي تحدثنا عنها سابقاً في هذه المقالة ـ بالنسبة الى سعة الكون الهائلة.

وحتى نتلمس هذا المعنى يكفي في البداية أن نقف على سطح مرتفع لننظر الى الأسفل لنجد أن حجم الإنسان يتصاغر بشكل غريب، وهكذا الأمر إذا ما أمعنا النظر الى البعيد حتى نجد أن الإنسان يكاد يكون غير مرئي، وأيضاً في ما لو صعدنا بالطائرة ونظرنا الى الأسفل لوجدنا أن كل الموجودات على وجه الأرض تكاد لا ترى فكيف بالإنسان؟! (راجع الصور 4،5،6)

 

 


1

2

3

4

5

6