وجهُ أُمِّي وَجهُ أُمَّتي

15/4/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

عندما يَهُلّ علينا الحادي والعشرون من شهر آذار من كل عام، نتفاءل بقدوم فصل الربيع، فصل تفتح أكمام الأزهار والرياحين وإخضرار الأشجار، وإنبعاث روح الحياة في الكائنات...

يُكلِّل هذا الفرح الكوني الملّون، عيدٌ مميّزٌ هو من أنضر الأعياد وأسماها، وهو عيد الأم، متساوقاً وعيد الربيع.

وبمناسبة هذا العيد السعيد، المُضمَّخ بعطر الجمال والمحبة والبراءة والأمومة، والعطاء المُتجدِّد، يحلو لي أن أبعث برسالة حُبٍّ ووفاء إلى أمي الحبيبة الراحلة. أبُثُّها شوقي وحُزني وأسفي على غيابها عن ناظري بالجسد وإن كان حُضورها الصامت يضخُّ دائماً في قلبي وروحي وعقلي. ولأعَبَّرَ لها عن إفتخاري وإعتزازي بها كأمٍ قديرة ومؤمنة وطاهرة ومثاليّة، ولأسرد بعض الذكريات والمحطات الخالدة، التي عبّدت طريقها بروح الصبر والإباء والحكمة والجهاد والأخلاق والقناعة والمحبة...

أمي الحبيبة:

عندما أتذكَّرُ مناقبيتك وأعمالك الصالحة، أتذكَّر أمُّ أولادي وسائر الأمهات الصالحات، اللواتي يفتخر بهنّ الوطن، ويُقدّر مآثرهن المجتمع لتضحياتهنّ، وعطاءاتهنّ المستمرة دون حساب، فأتذكر من وحي هذه المناسبة، مقولة جبران خليل جبران الخالدة، التي إختزل فيها عظمة الوطن مُرادفةً لعظمة الأم فيقول بثقة وإعتدال:« وجه أُمِّي، وجهُ أُمَّتي ».

كما أتذكرُّ حديث الرسول الكريم w، الذي قرن رضى الله برضى الوالدين، وأكبر فضائل الأم، وتفانيها في خدمة الزوج والأبناء فيقول:«الجنّةُ تحت أقدام الأمهات».

فيا أُمي الحبيبة! أنتِ رمزٌ للعطاء والتضحيّة، ونكران الذات، ومنبعُ الطهارة، وقمَّة الأخلاق، فكم أشعر بصغري أمام عظمتك. وحنانك.

وعندما أتذكرُّ الأيام الخوالي التي عشناها تحت ظلال حنانك الوارف، أشعُرُ بفخر بأعمالك الصالحة، وبطهارتك وبعبادتك الخالية من الرياء والغلو، وحُسن خُلقِك مع أُسرتك وجيرانك والناس.

أتذكرُ كيف كنت تديرين منزلك بحنّكةٍ ودراية وكياسة وكيف كنت تتحدِّين شظف العيش، وقساوة الحياة الظالمة بمشاركة زوجك العمل خارج المنزل يداً بيد من أجل لقمة عيشٍ كريمةٍ مُغَمَّسةٍ بمداد الكرامة، بعيداً عن ذُلِّ السؤال أو مِنَّة من أحد.

وأتذكرُّ. كيف كنتِ توظِّفين الحكمة بين الجيران المتخاصمين فلم تنقلي الكلام على عواهنه، وإنّما كنت تحوِّلين البذيء منه إلى كلام جميل يُقرِّب بين فريقي الخصام إلى حدود المصالحة. ولسان حالك يقول مع الرسول الكريم w، « قرِّبوا ولا تُنّفروا، يسِّروا ولا تُعسروا».

ولم أنسَ كيف كنتِ تثيرين الحماس والتشجيع في نفوسنا على طلب العلم. وكأنّك بهذا الإهتمام الزائد تريدين التعويض في ابنائك عما حُرِمّتِ منه في طفولتك من تعليم ودراسة.

ولن أنسى إنتظارك الوجدانيّ على شرفة منزلنا المقابلة للاوتستراد الدولي بين جبيل وبيروت حيث كنتُ أقف عليه بإنتظار سيارة تقلّني إلى مركز عملي في بيروت. وعندما كنت أغادر المكان كُنتِ تطمئنين على سلامتي فتدخلين المنزل لإكمال أعمالك البيتيّة.

وأتذكرُّ بحسرةٍ وألم، مُصيبة المصائب التي حلّت بنا عندما خطفت يدُ الحرب العبثيّة الآثمة إبنك الحبيب نمر والذي لم تكن له ناقة في الحرب ولا جمل، ولم تكن ملائكيته ولا مناقبيته تشفعُ له بالتخلّص من براثن الموت المفروضة على النّاس بغير عدل إلهيّ.

وأتذكرُّ كيف إنقلبت حياتك على إثر هذه الفاجعة رأساً على عقب حتى آخر العمر. فاختفت الإبتسامة عن وجهك الصبيح، وتجلببتِ بالسواد قلباً وقالباً. حتى فارقت هذه الدنيا بحسرة من إحترقت بنار فراقه وكما كنتِ هَنيَّةً، ورضيّةً في حياتك فقد كنتِ كذلك في مماتك. فكما تمنيت على الله أن يكون موتك موت الفجأة، فنلت من الله ما تمنيت، ورحلت بصمت فلم يزعجك هذا الموت الفجائي، ولم تزعجي بسببه أحداً من حولك.

إنّ الخلود لم يكتب لنا في هذه الدنيا، وأنتِ خالدة في ذاكرة الزمن والمحبيّن، وفي نعيم الآخرة حيث الجنّة التي وعد الرسول w، مصيراً للأُمهات، بأنّها ستكون تحت أقدام الأمهات.

ففي عيد الأمهات، يا أُمي الحبيبة سلام لك وسلام عليك.

 

بقلم الأستاذ يوسف حيدر أحمد