مع الشاعر الشعبيّ علي كنعان

11/10/2012
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الأستاذ خضر كنعان

 

 

ما مَاتَ من كان حَيَّاً ذِكرهُ

وَفي الدَفاتر قد تُتلى فوائدهُ

ولم يَزلْ عِلَمهُ في النّاس مُنتشراً

وَينفعُ الخلق في الدُّنيا عوائدهُ

 

رَغب اليّ سماحة العلاّمة يوسف عمرو في رسالة شيِّقة يفوح منها الإيمان والمحبة والوفاء ان أكتب عن الشاعر الزجليّ ابن قرية بشتليدا ـ جبيل، المرحوم علي كنعان وهو شقيقي البكر، والحقيقة أن سماحته في هذا الطلب قد نكأ جُرحاً دفيناً وَحَرَّك عواطفَ حزينة لا لفقد شقيقي: فالموت حقٌّ، ولكن لتلك الحياة القاسيّة المريرة والسنين العِجاف التي عاشها فكأنّه وقوارص الدهر صنوان لا يفترقان حتى ألفت الأحزان قلبه فالسنُّ ضاحك والقلب باكٍ وتكسرت النصال على النصال. والرزايا تفجرُّ العواطف الصادقة الجيّاشة كما حدث مع أبي فراس الحمدانيّ والمعتمد بن عبّاد والمتنبيّ وسواهم من فحول الشعراء.

والشاعر علي كنعان تدَّفق كشلال في جميع الفنون الشعريّة: كالمديح والرثاء والهجاء والغزل وبما أنّ شعره ليس مجموعاً في ديوان فقد طلبت من عائلته ان يزَّودوني بما عندهم، فوجدت أمامي نبعاً ثرَّاً مُتدفقاً فوقعت في حيرة عميقة إذ لا أستطيع مهما حباني الله من بلاغّة الإيجاز أن أُضفي على الشاعر حَقَّهُ في مجلة تضيق صفحاتها وبذلك نكون قد بخسنا الشاعر حَقَّهُ وجانبنا إِنصافه. ويا حَبَّذا لو أَذن صاحب السماحة بأكثر من مقال كي لا نظلم الشاعر بعد موته كما كان مَغبُوناً في حياته. ونظراً لتعدد فنونه الشعريّة آثرت أن أبدأ بما يتلاءم مع مشاعر القراء وأفكارهم وما يجري في وطننا لبنان وما نشاهده حولنا في البلاد العربيّة وذلك في شعره الوطنيّ.

أ ـ نتف عن حياة الشاعر

هو من مواليد بشتليدا ـ قضاء جبيل عام 1921م. إنتقل مع والده المرحوم الحاج محمد ديب كنعان إلى بيروت ودخل إحدى مدارسها واكتفى بالشهادة الثانويّة الأولى ـ بكالوريا ـ تنوّع عمله لكن أبواب الرزق لم تكن مُشرَّعة، ثُمَّ عمل في شركة أمريكيّة. «النقطة الرابعة» واستمرّ فيها ما يزيد على العشر سنوات وفجأة أقفلت الشركة أبوابها دون أيّ تعويض على موظفيها، تزوج مرتين وأنجب من الثانيّة ثلاثة ذكور وبنتاً واحدة، وخلال معارك الجيش اللبنانيّ مع مُسلّحي برج البراجنة حيث كان يقطن الشاعر أُصيب منزله بقذيفة أدت إلى استشهاد زوجته وولدين من أبنائه في الرابعة والسادسة من العمر فكان هذا المُصابُ الصاعقة التي قصمت ظهره حقاً حتى وفاته.

كان الشاعر من أعلام شعراء الزجل في لبنان وهو من رعيل زغلول الدامور وزين شعيب وكان ذا صوت جميل رائع لا يشبهه إلا صوت زغلول الدامور. وحباه الله موهبة فذّة في الزجل، وكثير من مقطوعاته وجدت طريقها إلى الإذاعة اللبنانيّة وإذاعة فلسطين وإذاعة سوريا ليسمعها النّاس بأجمل الألحان وأعذب الأصوات. وكأنّه الجاحظ لا تراه إلاّ بين الكتب لا يملُّ القراءة والمطالعة منها فهو بحقِّ روضة شعريّة طافحة بأطايب الإلهام والخيال وميدان واسع لرحابة الصدر وسمو الأخلاق، لا تقابله إلاّ والبشاشة على مبسمه مُبدِع في الصور الشعريّة، وكما هو معروف فالزجل يُكتب باللغة المحكيّة أي باللغة العاميّة. ولهذا نجد صعوبة في الكتابة وعُسراً في القراءة إلا على من أُوتي حظاً في الأدب واللغة.

ويلّخصُّ الشاعر بعض صفاته في هذه الأبيات:

لو بتروح لوْين ما تروح

أو تفكّرْ بتلاقي

بخفةْ دمي وصفو الروح

وطيبة قلبي وأخلاقي

عَطيْتكْ قلبي وخَليتَكْ

تبقى مشوَّق عا لباقي.

ب ـ الشاعر الوطنيّ

فالشاعر أحبَّ وطنه لبنان وأرزته وكل نسمة تهبُّ فيه كما عشق الضيعة ولياليها، وقد أوصى ولده أن يعتبر لبنان والده والأرزة الخالدة أمَّهُ وأن لا يَضِنَّ بالحفاظ عليها بالروح والدم:

لبنانك يا ابني بيَّك

وأمَّك أرزه مجليي

تحدَّث يا ابني عن بيَّك

بتحلي الكون رجوليي

من وديانو لروابيه

لحد سهولو وشواطيه

كيف ما العين التفت فيه

بتوجد سر الوهيي

وكان إيمانه بوطنه لبنان هو الإيمان ذاته بأهله على إختلاف النحل والمشارب والمذاهب، وأية عاصفة مُؤْذِيَة تهبُّ عليه عكست أذاها على وجدان الشاعر:

يا موطني شو باك يا أغلى حبيب

من غير عادي شايفك عابس كئيب

ليش اليأس هالقد عا وجهك بدا

وأنت اللي كانت بسمتك وصْفِةْ طبيب

يا صاحب الأمجاد لا تخشى العدى

محروس إسمك بين قرآن وصليب

ولنتأمل ضراعة الشاعر إلى الله سبحانه أن يحمي لبنان وأرزته الخضراء من كل حاسد وشرِّير ليظلَّ شعب لبنان في مسراته وأفراحه:

يا الله تحمي بلادي

وأرزا الـمُخـْــضَـــــــر

من عينين الأعادي 

وايديْن الشر

تا يبقى الأرز العالي

باحسن حالي

وشعب اللبنانيّ الغالي

عايش مُنْسَرْ

*   *   *

مش رحْ صدِّق عالحالين

الجنة إلْسَمُّوها جنه

مثل بلادي عين بعين

تاشوف بعيني الجنه

*   *   *

بلادي نادر معدنها

والنادر سعرو غالي

ربِّ العرش مكوَّنْها

ذُرَّه عالكون تلالي

وها هي نسمة جبلنا تحمل المحبة والصفا لكل من تنشقها وانتعش بها:

نسمة جبلنا الهاديي

فيها المحبيّ باديي

حملتْ صفاء قلوبنا

لأهل الحضر والباديي

ج ـ الشاعر القوميّ

كان الشاعر علي كنعان في شعره الوطنيّ دفَّاقاً صادقاً يؤمن أنّ حُبِّ الوطن من الإيمان، فنظم في وطنه ما رأينا شعاعاً مُضيئاً منه في كلمة سابقة، وهذا الشعور الوطنيّ العربيّ يسري في عروقه ويمتزج مع دمه، فمنذ قيام الوحدة بين مصر وسوريا أثلجت هذه المناسبة  التاريخيّة صدره فقال:

بلاد العرب لاقينا

وفي وحدتنا هنّينا

صبرنا كتير يا بلادي

تا نصبر بعد ما فينا

*   *   *

بجمع الشمل قيمتنا

وفي وحدتنا رفعتنا

الموت بعز شيمتنا

ولا عيش الذل يرضينا

فالتهنئة ليس للشاعر وحده وإنّما هي لكل عربيِّ حُرٍّ أصيل ولكل وطنيِّ عزيز كريم:

تهنا يا عربيِّ تهنا

الفرحة عمِّت موطنا

الأرزه عملْت زلغوطا

ودجله وبردى زقفو كف

والنيل الهادي غنَّا

*   *   *

يا مصر بنهنيكي

فِرْحِةْ كُل نواحيكي

بهمة أحرار الفيكي

بعد اليوم الإستعمار

ما عاد لُو ملفى عنَّا

*   *   *

بقلب التاريخ مرقنا

إيد بإيد وراية تهل

ما في قُويِّ تفرقنا

حبايب عشنا وبدنا نضل

مثل الإخوة بموطنَّا

ولما وقعت نكسة الإنفصال لم ييأس ـ وإنّ تألم كثيراً ـ بل وقف يشدُّ العزائم ويشحذ الهمم وليس العار أن نُنكب وإنّما العار أن تحوِّلنا النكبات من رجال أقوياء أشداء إلى أشباه رجال جبناء ضعفاء:

يا أخوتي مش عيب نكستنا

الفيها أهالي الشر صدمتنا

العيب أنا ننخذل ونَّام

عالضيم، ونطوِّل بنومتنا

 يا صاحبين الأمر يا حكام

المطلوب منكم جمع كلمتنا

يا أسود الشرق يا إسلام

فلسطين مودوعة بذمتنا

بيكفي بقا لأهوائنا استسلام

شيلوا المطامع منكم وخلّوا

هجمة منا يا الموت همتنا

وها هو يخاطب فلسطين بأن أهلها عائدون إليها وأن أُمّة العرب تستعد للزحف وأنّها ستحرم اسرائيل الراحة وتسرق من عينيها النوم:

جدّوا يا شباب العُرْب جدّوا

بحبل الله اعتصموا وشدّوا

أمّا الموت عن بكرة أبينا

وأمّا حقنا منرجع نردوا

*   *   *

يا فلسطين استني يوم

رح يطلْ عليك القوم

والله عين الصهيونيّ

لنحرمها تذوق النوم

*   *   *

يا خيي يا جناح الخي

ساعدني عالدهر شوي

أحسن ما الأيام تقول

دم العربي صاير ميى (اي ماء)

صدو فرقه بيكفينا

طمّعنا العالم فينا

شو الأسباب مجافينا

بيني وبينك ما في شي

ونراه ينظر ويسمع بدماء العلماء والأبرياء التي أباحها السفاح صدام حسين فيطلب ممن سفك دم أهل البيتR، أن ينهض من مرقده في قعر جهنم ليستقبل تلميذاً له:

يا يزيد الشام انهض في رواق

من قاع نار جنهم ولولا مُعاق

واستقبل ملوك المجازر يا يزيد

وعا رأسهم صدام سفاح العراق

صدام أنت بتعرف جدودو أكيد

هالشاركوك بترب كاسات الدهاق

من نسل هاك الشمر طالع هالحقير   صورة طبق الأصل عن أهلو العتاق

وفي هذه الجولة الخاطفة مع الشاعر وشعره الوطني وإنفعاله بحلوها ومرّها كان يستمدُّ إيمانه وعزيمته من آل بيت النبوة الأطهار ويتوسّل إليهم الشفاعة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم:

الشفاعة يا أهل بيت النبوي

الشفاعة، وقعت من جهلي بهوّي

سحيقة وزادت ذنوبي تراكم

وعليي تآمرت نفسي العدّوي

ولما لقيت ما بقدر بلاكم

ارجع رفرف وحلِّق بقوِّي

لأنو خالق الخلق اصطفاكم

منارة للأبد نورا مضوّي

انتوا المُرتجى مالي سواكم

يا أصحاب الشفاعة والمروّيّ

الشفاعة حيث قاصد حماكم

وصوتي بفضلكم عالي بقوّي

يا ويلو إلْمهتَدى قلبو بهداكم

شفيعو من الخلق مين هوّى

وللحديث صلة إن شاء الله