نبذة وجيزة عن حياة المؤرخ يوسف عماد

18/1/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الدكتور موريس عماد

عمل طويلاً في سبر غور تاريخ هذه المنطقة وما انطوت عليه من صفحات مجهولة وجمالات. إنه المربي والمؤرخ يوسف عماد الذي غادرنا بخفر منذ أكثر من ثلاثين سنة بعد حياة مديدة قضاها في التربيّة والتعليم والتأليف.

الأستاذ يوسف عماد.

.. خدم وزارة التربيّة الوطنيّة كما لا أحد بتفانٍ وإخلاص ناشراً علماً وثقافة وإبداعاً فكرياً. دأب على نشر المعرفة واستنهاض الهمم نافخاً نفس الوطنيّة القويمة في نفوس طلابه بعيداً عن الطائفيّة البغيضة مبشراً برسالة العدالة والمساواة والانتماء للبنان.

تخرجّ على يد يوسف عماد في أماكن تواجده العديدة من راشيا الوادي إلى معلقة زحلة إلى يحشوش وأخيراً إلى جبيل، قوافل من الأجيال بطاقات وخامات متباينة، عمل على صقلها وتطهيرها، فدانت له طويلاً بالوفاء والعرفان.

لم يقتصر نشاط يوسف عماد على التربيّة والتأليف فحسب بل تعداه إلى شؤون هذه المنطقة وشجونها. عاش حياته مترسلاً شبيهاً بالنساك الزاهدين ببهارج هذه الدنيا فكل نشاطاته للخير وللغير، للكتاب واليراع.

عاش الحسَّ الوطني والوضع السياسي لمنطقة الفتوح بشكل خاص وعانى مع مواطنيه في المنطقة من الهيمنة المتماديّة على البشر والحجر. ففردوس الفتوح الأرضي كما حلم به يوسف عماد وكتب عنه وبشَّرَ به هو وحدة جغرافيّة مستقلة بين قضاءي جبيل وكسروان، فكان أحرى به أن يكون فردوس لبنان لو حسنت سياسة الانماء المتوازن من عشرات السنين وعُممّت في أرجائه شبكة مواصلات حديثة تبرز من خلالها للقاصي والداني، معالم طبيعته الخلابّة وبعض مواقعه الأثرية من صخرة أدونيس وعشتروت إلى الآثار الرومانيّة، في بلدة الغينة إلى نهر الذهب فمرابع التزلج والإستجمام في فقرا وعيون السيمان، إلى يحشوش المعطاءة برجالاتها، يظللّها جبل موسى بشموخه؟ وَيَغسل أقدامها نهر ابراهيم الأسطوري بجمال واديه وفرادة تكوينه، حتى قيل عنه بأنّه من أروع ما عُرف في الدنيا من جمال أخاذ، دون أن ننسى على ضفتيه ما اشتهر بدرج جهنم على مقربة من شوّان ومأوى النسور في أعالي العبري، ومفاتن الطبيعة وعشاقها في جنّة، وملجأ الموارنة الأولين في أفقا ويانوح العاقورة، لكان بلا ريب أبناء الفتوح أحسن حالاً وأوفر حظاً وأكثر بحبوحة بتكاثر فرص العمل وتنوعّها وببقائهم متجذرين بأرضهم أوفياء لعاداتهم والتقاليد.

عَرَفَ يوسف عماد حتى ارتوى من التاريخ القديم والحديث واستشفّ حوادث لبنان والأحداث، وهو ما زال على فراش العذاب، يحلمُ بالمزيد من الإجتهادات والتمحيص عن تاريخ الفتوح (...) القادم من المآسي والنكبات على وطنٍ أحبه بكل جوارحه. فبحدسه وسعة إطلاعه حذّر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة من الأخطر والأدهى على الوطن الجريح. مات شأن الكثيرين من الجنود المجهولين، كما عاش يدوّن وينتقد مسيرة الحياة في منطقته، يعارض ويعاني تبياناً للحقيقة وإعلاءً للحق غير آبهٍ بظلم حاكم ولا بأداء جائر كائناً من كان. سجل المواقف المشرفة وترك لنا آثاراً نتباهى بها ونحرص عليها. وما ضنَّ على منطقة الفتوح بشيء وترك للتاريخ أن يُصدر الأحكام وينصف من عملوا مخلصين جاهدين لغدٍ مشرقٍ معطاء.

كانت باكورة إنتاجه في حقل الأدب سنة 1923 مسرحية وطنيّة تاريخيّة بإسم «سبل الأرز» مُثلت أدوارها عهدئذ في مناطق عدّة من لبنان.

(...) في حقل التربيّة والتعليم نحواً من أربعين سنة فعمل في المدارس الرسميّة في معلقة زحلة وراشيا الوادي ويحشوش وأنهاها أخيراً في جبيل بحقبة طويلة، حيث تحملّ المسؤوليّة الإداريّة. تخرجت على يده قوافل من الطلاب أخذوا عنه بالإضافة إلى الأصول البيانية واللغويّة والتاريخيّة ما كان يقدم من مثل في الحث على التنقيب والبحث (...) وقد حفظوا له أطيب الذكر واعترفوا له بالجميل.

عرَّف الطلاب إلى تاريخ بلادهم ومناطقها وثرواتها الطبيعيّة، فأسهم إلى حدٍ كبير كما سترى لاحقاً (...) في ترسيخ محبة هذا الوطن في قلوب ابنائه بعد أن أبان له ما في تاريخه من كنوز وما في طبيعته من طاقات وجمالات.

كان رسولاً صادقاً للوحدة الوطنيّة وللإنصهار الشعبيّ الصادق والصحيح كما آمن به وترسخّ فيه من مبادئ العيش المشترك خلال تواجده الطويل في مدنٍ تميزّت بالإختلاط بين طوائف لبنان ومذاهبه العديدة فعايش الكاثوليك والروم والدروز والسُنّة والشيعة وكان له مع الجميع أمتن الروابط وأوثق العلاقات ممّا حمله دوماً في أحلك الظروف لا سيما في خضم الحرب الأهليّة اللبنانيّة إلى المناداة بالتسامح والحرية والإخاء فجاهر بالولاء للبنان المحبة والعدالة والعيش الكريم لكافة أبنائه. خصصَّ في مدارسه يوماً واحداً في الأسبوع للتنشئة الوطنيّة والتربيّة القويمة على مبادئ الأخلاق والدين. فلم يتوانَ يوماً عن جمع التلاميذ في صفوفٍ متراصة في بهو المدرسة لينشدوا جميعاً رافعين علم لبنان النشيد اللبنانيّ وسواه من الأناشيد الوطنيّة الحماسيّة فكان عن حق من أوائل الّذين وعوا وأحيوا الإحتفال بعيد العلم اللبناني بعيد الإستقلال. هذه الدروس الوطنيّة جسدها في كُتيب مدرسي تحت إسم «بلادي» للصفوف الإعداديّة أبرز بين دفتيه ما تميّز به وطننا لبنان من جمالات فريدة بين الجبل والبحر وبين السهول والوهاد ليرسخها في قلوب طلابه ويتبعها في عقولهم.

يوسف عماد المؤلف

باشر في حقل التأليف منذ سنة 1925م. رغم صعوبات ذلك الزمان وعقباته الكثيرة، فكانت باكورة أعماله كتبه المدرسيّة في التاريخ والجغرافيا عن لبنان وبعض البلدان العربيّة. وكانت في ما بعد كتب القواعد العربيّة المصورّة. كتب إعتمدتها بمجملها المدارس الرسميّة اللبنانيّة وطائفةٌ من المدارس الخاصة قرابة نصف قرن. فإلى جانب المختصر المفيد في تاريخ لبنان بأجزائه الثلاثة كانت الجغرافيا بأجزائها المختلفة للصفوف الإبتدائيّة والتكميليّة، ناهيك عن كتب القواعد المصوّرة بشجرتها الشاملة.

إلى ذلك صبّ اهتماماً خاصاً على إبراز مراحل التاريخ اللبنانيّ في إطارها الجغرافيّ من خلال مؤلفاته، فسرد وقائع وأحداث لبنان عبر التاريخ القديم والحديث، بما شهدت عليه صخور نهر الكلب، فأتى على ذكر هذه الوقائع التاريخيّة بأمانة وصدق ووصف دقيق وأسلوب شيق بعيداً كل البعد عن إرباك الطالب وإرهاق خياله وتعقيد فهمه. فاقترن إسمه طيلة نصف قرن من الزمن بإسم الجغرافيا والتاريخ.

كما أنّه ما سهى عن باله، الإهتمام بأصول القواعد العربيّة فجسدها بثلاثة أجزاء مع شجرة تبرز باختصار مواقع الكلمة بإسمها وفعلها وحرفها مع أمثلة وافية على كل ذلك.

هذه الشجرة كلوحة فنية أضحت هدية المؤلف إلى الناشئة اللبنانيّة والعربيّة.

يوسف عماد المؤرخ

ما أهمل القرية يوماً وما فيها من جواذب، فأحبها منذ نعومة أظافره وقدسَّ العائلة. جاب قرى الفتوح مشياً على الأقدام ، فاستنطق ناسها وحجارتها وما حوته خزائنهم من مخطوطات واستقصى في عمل مضنٍ ودؤوب ما دار في الفتوح من أحداث عبر التاريخ القديم والحديث ومن اشتهر من عائلات، وما تعرضت له هذه المنطقة عبر التاريخ من ويلات وما انشئ فيها من أوقاف على مرّ الزمن وما نسجته السنون في واديها من أساطير.

وهذا كله يُظهر على حد قول غبطة البطريرك نصر الله بطرس صفير ما كان عليه يوسف عماد من نشاط ودأبٍ في العمل وسعي إلى الحقيقة، واكتشافها وعرضها على المتشوقين إليها، ويدلُّ في الوقت عينه على ما أوتي من صلابة عود وشدّة مراس وعناد في الحق.

أهالي الفتوح رغم النكبات الكثيرة التي حلّت بمنطقتهم، ظلوا متشبثين بأرضهم، بعاداتهم وتقاليدهم. قلة قليلة قصدت المهاجر أسوةً بمواطنيهم من مناطق أخرى، لذلك ظلَّ العمران والإزدهار دون متناول اليد، وظلّت الهيمنة الإقطاعيّة طاغيةً على القلوب والجيوب.

تغلغل يوسف عماد في مجاهل تاريخ الفتوح فحللّ وغاص في غياهبه ورمم الطريق أمام الباحثين الجدد والنقاد فخلّف لهم ولمن بعدهم مخطوطات قيمة ووثائق نادرة كانت عرضةً للنسيان ضائعةً تائهةً في أدراج الإهمال واللامبالاة.