الشيخ عيسى بن حسين حمادة المستشهد عام 1717م.

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

المؤرخ الدكتور سعدون تنال حمادة

قال الدكتور سعدون تنال حمادة[« في الوقت الذي كان فيه إسماعيل(2) يحكم المنطقة الواقعة بين طرابلس وبيروت، كان يحكم جبل لبنان بما فيه جبة بشري وعكار والكورة شيخ حمادي آخر هو عيسى بن حسين بن أحمد. وأحمد هذا هو الفتى الذي أرسله سرحان صاحب السمية ليحكم جبة بشري بعد أن طلب منه أعيان البلاد أن يرسل أحد اقاربه ليحكمها على شروط توافقوا عليها.

فحكم أحمد جبة بشري سنة 1654م. ومشى كل عدل ورحمة وساق كل طريقة وأرضى الجميع من حكام البلاد وأهلها حتى خلفه في الحكم ابنه الشيخ حسين الذي حافظ على سيرة أبيه في العدل والرحمة، وترك ولدين هما حسين المشطوب وأبو محمد عيسى(3).

كان أبو محمد عيسى حاكماً عادلاً مشى بكل طريقة تناسب الفلاح، وعمّر البلاد ووضع سُنناً وفرائض مثل حدود قرى وأراضٍ وتمشي طرق وسواقٍ وما زال الأهالي حتى اليوم «1818م.» يسيرون بموجب سُننه وفرائضه. وهو الذي وضع نظام السقاية في البلاد الشحيحة المياه بنظام لم يزل مرعياً حتى يومنا هذا(4). وتعهد للقنصل الفرنسي في طرابلس برعاية المبشرين الفرنسيين ما دام هو وعائلته يحكمون جبل لبنان(5).

 

وبعد أن فرض عيسى سلطانه على جبل لبنان لمدة ثلاثين سنة استطاع العثمانيون بتدبير من الباب العالي، وتنفيذ من والي طرابلس أن ينصبوا له فخاً فقتل غدراً في مطلع شهر آذار سنة 1717م. وأرسل رأسه إلى القسطنطينيّة(6).

يبدو واضحاً مرة أخرى أن الحماديين حكموا بلادهم حكماً وراثياً شاملاً كل مناحي الحياة العامة، ولم يلتفتوا كثيراً إلى عقود الإلتزام التي كان باشا طرابلس يصدرها كاعتراف بما هو حاصل فعلاً. وأنّ عدم صدورها لا يغير من الأمر شيئاً كثيراً. لذلك كان من الطبيعي أن يحاول الباشوات استرداد ما أمكن مما يعتبرونه من صلب صلاحياتهم وطبيعة مناصبهم. ولما حاول أحد الباشوات الأقوياء محمد باشا تحدي الحماديين بتعيين ابن أخته حاكماً على عكار، لم يتوانوا عن قتله في حلبا ومهاجمة طرابلس نفسها واحتلالها ودخول قلعتها(7).

ثُمَّ تكلّم الدكتور حمادة عن مأساة الشيعة ومشايخهم من آل حمادة في عكار من قبل ولاة طرابلس الأتراك على الرغم من موافقة اثني عشر شيخ قرية أمام قاضي طرابلس على التعاقد الشرعيّ معهم. وخديعة والي طرابلس للشيخ عيسى ومكره به حيث قال:[« وبما أن المواجهات السابقة مع هذا الشيخ العجوز قد أثبتت عقمها مراراً لم يعد أمام الوالي إلا اللجوء إلى كمين غادر ربما يحقق له مراده إذا خطط له بسرية ومكر وبراعة. وقد وجد الوالي فرصته عندما جاءه جماعة من الأكراد الرشوانيّة ـ وعلى رأسهم شديد الناصر ـ من منازلهم بين مدينتي مرعش وبسنا مصحوبين بتوصية من والي حلب موجهة إلى كلِّ من والي طرابلس ووالي صيدا تطلب إعطاءه التزام عكار وذلك سنة 1714م. فأغراه حسن باشا واستعان به واستخدمه لتحقيق مأربه المعد سابقاً. «فكاتب شديد الشيخ عيسى ملاطفاً ومحاسناً وطلب لقاءه سراً للإتفاق على الباشا وأن تكون عكار لهما معاً، فأركن عيسى إليه لأنّه لم يكن بينهما غلٌ سابق ولا عداوة.. ولا زال شديد الناصر يكاتبه أو يرفده بالإيمان إلى أن ربطها مع الباشا وعينوا عسكراً سريا»(8).

« كان في قلب الباشا من عيسى فحلف إلى شديد أنّه إن مكنه منه يعطيه ما أراد(9).

ضرب الشيخ عيسى موعداً لشديد في دير حنطورة(10) في الكورة حيث وفد الشيخ مع عدد قليل من رجاله فأرسل الباشا حملة من جنوده اللاوند من نحو 150 مقاتلاً ومعهم شديد، خرجوا في الليل ومضوا في دروب مسلوكة واجتازوا عكار والضنيّة ثُمّ وصلوا إلى الدير في الليل وقتلوا عيسى واثني عشر رجلاً من جماعته بينهم ابنه حيدر وعبده بلال ومراسله سميا الماروني، وهم غالباً نيام لأنّ ذلك حصل ولم يشعر به أحد من أهل البلاد(11).

جهز الباشا عسكراً من خمسة آلاف رجل لمهاجمة الحماديين وطرح الشيخ إسماعيل الصوت وجمع عسكراً ليأتي إلى الجبة ويأخذ نساء عيسى خوفاً عليهن من الدولة. فاجتمع أعيان طرابلس وتواسطوا بين الباشا وإسماعيل وقاموا بزيارات للطرفين بعد أن توترت الأجواء بينهما(12).

جاء في تقرير القنصل الفرنسيّ في صيدا بولارد إلى حكومته حول هذه الحادثة «وفي مطلع هذا الشهر داهم والي طرابلس بدهائه وحنكته، الشيخ عيسى من آل حمادة، في قرية حنطورة التي تبعد عن تلك المدينة حوالى اربعة أميال. وهذا الشيخ الحمادي، من شيعة الإمام علي بفرض سلطانه على جبل لبنان منذ ثلاثين سنة. ولم يستطع الباشوات بما لديهم من حول وقوة أن يتخلصوا منه. وقد داهمه رجال الوالي ليلاً، وقطعوا رأسه الذي عرض في طرابلس ثم أرسل إلى القسطنطينيّة. وهكذا كان أيضاً مصير أشقائه وعشرة من أتباعه الذين ألقي القبض عليهم معه».

وقد أدى هذا الحادث إلى اضطرابات من المتوقع أن تنتهي قريباً، لأنّ والي طرابلس يقوم باستعدادات عسكريّة كبيرة لإجبار الشيخ إسماعيل أحد المشايخ الرئيسيين لآل حمادة، وهو سيّد البلاد الممتدة من طرابلس إلى بيروت ويقيم في مدينة جبيل، على وضع إتفاق سلام بضمان أمير جبل الدروز التابع لولاية صيدا، وقد لجأ إليه الشيخ إسماعيل لأن هؤلاء المتمردين على السلطة العثمانيّة متفقون جميعاً على مساعدة بعضهم البعض لضمان وجودهم واستمراريّة مصالحهم».

والحرب التي يقوم بها والي طرابلس ضد آل حمادة تجعل التجار الفرنسيين في ضيق منها لأنّها تعيق الأشخاص الّذين يحملون رسائل تجارية تنقلهم من مكان لآخر. ومن المتوقع أن تنتهي هذه الحرب في غضون أيام قليلة، وقد أدت إلى مقتل اثني عشر رجلاً قطعت رؤوسهم، كما تسببت بمعركة طاحنة لم يشهد أحد مثلها في السابق».

وتجدر الإشارة إلى أنّ عثمان باشا كان قد حاول منذ سبع سنوات الصعود إلى كسروان ففقد بين 400 و500 رجل وخسر 200 كيس من قيمة الإلتزام الذي جباه من هذه المنطقة(13).

إن تقرير القنصل الفرنسي لا يشير إلى وجود شديد الناصر ـ كما يتردد في بعض الروايات المحليّة ـ أو الأمير موسى الكردي أو بيت رعد في عداد حملة باشا طرابلس، «بينما تروي وثيقة» نسب آل المرعبي أن الشيخ شديد دخل إلى الدير حيث كان الشيخ عيسى بالحيلة والخداع وأقنع الحرس بأنّه مكاري مع قافلته يودّ السلام على الشيخ الزعيم ثم أطلق النّار من غدارته عليه وانسحب. ويقول المراعبة إنّهم يحتفظون ببعض الذكريات الشعبيّة عن عمليات القضاء على من تبقى من الحماديّة في عكار، والمجازر الدمويّة التي قضت على وجودهم فيه ورسمت حدودها الشماليّة الشرقيّة(14).

بينما تحصر المراجع الأخرى دور شديد في الإشتراك بتدبير الكمين وموافقة حملة الباشا الليلية إلى دير حنطورة. أمّا التقرير الدبلوماسيّ الفرنسيّ، فلم يأت في روايته عن الواقعة على اي ذكر له أو لغيره من العائلات المحليّة، وإنّما ينسبه إلى دهاء والي طرابلس وحنكته وإلى رجاله الّذين قطعوا رأس عيسى ليتم عرضه في اسطمبول بإعتباره عدو الدولة والسلطان(15).

الهوامش:

نقلنا كلام الدكتور سعدون تنال حمادة وتاريخه عن الشيخ إسماعيل حسين حمادة المتوفى عام 1745م. وعن شجرة الشيوخ الحكام من آل حمادة، عن كتابه: و «تاريخ الشيعة في لبنان» ج2، في العدد التاسع من «إطلالة جُبيليّة» الصادر في 15 كانون الثاني (يناير 2013م).

تاريخ الشيعة في لبنان، ج2، ص 124 ـ 125.

مختصر تاريخ جبل لبنان، العينطوريني، ص 131.

المصدر نفسه، ص 131 ـ 133.

D.D.C. T3, P. 274 يتناول بعض رجال الدين المؤرخين تفاصيل حادثة يقولون إنّها جرت بين عيسى والبطريرك الدويهي، في ارشيف بكركي ـ جارور البطريرك الدويهي ـ عدة رسائل إحداها من بشير حسين الشهابي وأخرى من كيخيا والي طرابلس تتناول تعرض البطريرك الدويهي إلى معاملة عنيفة من عيسى حمادة إثر تمنع البطريرك عن دفع مبكر للضريبة. وقد بالغت المصادر الحديثة في إبراز هذه الحادثة التي يخلو من أي إشارة إليها تاريخ الدويهي نفسه والتواريخ اللاحقة مثل الشدياق والشهابي والعينطوريني.

راجع تفاصيل مقتل عيسى في فصل الشيعة في عكار.

طرابلس في التاريخ، البابا، ص 189.

التاريخ اللبناني، الأب أغوسطين زنده، ص 19، والأب زنده، راهب مثير للجدل، تنقل بين الرهبانيات اللبنانيّة والحلبيّة وسافر إلى روما سنة 1757م. وهو يرى أن هناك أسباباً إلهيّة لقتل عيسى إضافة إلى الأسباب البشريّة.

المصدر السابق، الصفحة نفسها.

يقوم هذا الدير على الضفة الشرقيّة من نهر أبي علي (قاديشا) في سفح الزاوية مقابل بلدة كوسبا في الكورة.

يرى صاحب بحث «الإمارات الشيعيّة في سوريا العثمانيّة» الصادر عن جامعة شيكاغو أن عيسى الذي أصر على تنفيذ قرار البابا بشأن قضيّة البطريرك عوّاد. ربما سقط شهيد الشرعيّة الكاثوليكيّة وقرارات البابا نتيجة مكيدة قام بها أعيان الموارنة لدى والي طرابلس.

12 ـ المصدر المذكور، الأب زنده، ص 20.

13 ـ D.D.C. T1,P 179 J 181 ، وهذه ترجمة التقرير في تاريخ لبنان الحديث، عادل ومنير إسماعيل، ج1، ص 82، آذار 1717.

14 ـ الإمارة المرعبيّة، خالد مرعب، ج1، ص 94.

15 ـ وهذا ما يؤكد أن دور شديد الناصر في مقتل عيسى لم يتجاوز القيام بإستدراج الشيخ إلى الدير وتسهيل وصول العسكر العثماني إليه.