الحاج علي محمود عواد ( أبو سامي)-رجل الوحدة الوطنيّة

26/09/2013
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

( (1927-2011م

بقلم الدكتور عاطف جميل عوّاد

1ـ سيرته وطموحه:

هو أحد وجهاء بلاد جبيل، وقرية علمات، ومنطقة برج البراجنة. أبصر النور في قرية علمات، عام 1927م، في بيت عُرِفَ بالوجاهة والضِّيافة والانخراط في العمل الاجتماعيّ. تلقّى علومه في مدرسة القرية، مُتتلمِذًا لمعلّم تلك المدرسة الأوحد المرحوم علي خليل حيدر أحمد الذي كان يلقِّن طلابه أصول تجويد القرآن الكريم، والمبادىء الأوليّة في الصرف والنحو، وشذرات من كنوز التراث العربي المُدرجة في كتاب «مجاني الأدب». وقد أبدى المُتَرجمَ له نجابة في سيرته الدراسيّة، حيث أنجز في سنّ مبكِّرة «ختمية» القرآن الكريم «التي كانت تُعَدُّ آنذاكَ بمثابة شهادة أكاديميّة أولى ينالها الطالب، فيُقام له احتفالٌ، يُعِدُّه معلِّم المدرسة، ورفاقه الطلاّب، حيث يصطحبون المُحتفى بتخريجه إلى منزل أهله، وهم يرفعون أصواتهم بالحداء المشهور.

يا بدرِ شامي

بَلِّغْ سلامي

علـى مُحَمَّدْ

بَدْرِ التَّمامِ

يا بَدْرِ إطلعْ

بالليلِ إسْطَعْ

رسولٌ يشْفَعْ

يوم القيامـه

 

وفي نهاية الاحتفال، كان المحتفلون ينالون نصيبهم من الضيافة القرويَّة التي كانت عبارة عن ضروب من الفاكهة المُجَفَّفَة (الزبيب، التين المُطَبَّع، المُلَبَّس على قُضامه ...).

ولمّا شبَّ المُترجَم له على الطوق خفق جناحا طموحه، فغادر القرية قاصِدًا العاصِمةَ بيروت، ليُهاجِرَ بعد ذلك إلى فلسطين، ويَمْكُث هناك حتّى عام النكبة 1948م، ليعود بعد ذلك إلى وطنه، ويُنشىء مؤسسة تجاريّة، مُتنقِّلاً بين لبنان والبلدان العربيَة، بحثًا عن الكَسْبِ الشَّريفِ والرِّزُق الحلال.

2ـ نشاطه الاجتماعي في منطقة برج البراجنة:

لقد كان المُترجَم له حريصًا على أداء مناسك الله وشعائره، شغوفًا بمخالطة علماء الدين الأجلاّء، ولذلك أنشأ هو ونفر من المؤمنين الصالحين الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة في برج البراجنة، التي نَمَتْ نشاطاتها واتّسعت برعاية العلامة الشيخ عبد الأمير قبلان العائد آنذاك من النجف الأشرف. وقد ضمّت الجمعية صفوة من المؤمنين العاملين كالسادة باقر وشريف وأحمد الموسوي وأحمد عطوي، والحاج علي زغيب، وغيرهم. وقد تولّى الحاج أبو سامي رئاسة الجمعية من لَدُن تأسيسها ، وحتّى وفاته . والجمعيّة الفتيّة أخذت على عاتقها مسؤوليّة إحياء المناسبات الإسلاميّة والليالي العاشورائيّة في منطقة برج البراجنة، وجمع التبرعات والمساعدات من أصحاب الأيادي البيضاء، حتّى استطاعت هذه الجمعيّة تشييد مسجد الإمام الحسين بن عليQ، والنادي الحسينيّ المُلْحَق به، والمستوصف الخيري التابع للجمعيّة، ومدرسة التكامل الإسلاميّة بقسميها الابتدائي والمتوسّط . وقد أولى الحاج أبو سامي مؤسسات الجمعيّة عناية خاصة ، بحكم كونه رئيسًا لها ، واستطاع بحنكته ودرايته، وبالتعاون مع الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان، وأعضاء الجمعيّة، أن يوفّر مزيدًا من الدعم الماديّ والمعنويّ لمؤسسات الجمعيّة، ويحيطها بشبكة أمان من العلاقات الاجتماعيّة، من خلال التواصل مع بلديّة برج البراجنة، ومؤسسات المجتمع المدنيّ، ونوّاب منطقة بعبدا، وعلى رأسهم الوزير والنائب المغفور له محمود عمّار الذي كانت تربطه بالحاج أبي سامي علاقات ودٍّ حميمة.

3ـ نشاطه على مستوى بلاد جبيل:

لم يقتصر مجال نشاط الحاج أبي سامي على منطقة برج البراجنة، بل امتدّ إلى قريته علمات وبلاد جبيل، حيث تولّى رئاسة لجنة الأوقاف الشيعيّة في بلدته الوادعة وجوارها حتّى وفاته، بما عُرِفَ عنه من حسن الإدارة والدراية والصِّدق والأمانة. وقد استطاع إلى جانب رئيس المحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان العلامة الشيخ حسن عوّاد، وبمساهمات أصحاب الأريحية في العطاء، بناء نادٍ حسينيٍّ في بلدة علمات، ومستوصف صحيّ مركزي مُلحَقٍ بوزارة الشؤون الاجتماعيّة يؤمّه المرضى من علمات والبلدات المجاورة لها. كما جرى استحداث فرع لمحكمة جبيل الشرعية الجعفريّة في بلدة علمات، وكان القاضي الشرعيّ الشيخ الدكتور يوسف عمرو أوّل من تولّى أمور القضاء فيها.

أمَّا على الصعيد السياسيّ، ففضلاً عن كون الحاج أبي سامي «مفتاحًا» انتخابيًا مُرَجِّحًا، فقد اضطلع بدور وفاقيّ معتدل وجامع. وفي الوقت الذي كان لبنان بأسره يتقلّب فوق صفيح الحرب الأهليّة المشؤومة في سبعينيات القرن الماضي، تداعى الحاج أبو سامي وثلّة من أعيان منطقة جبيل إلى تأسيس تجمّع سياسيّ عُرِفَ باسم « لجنة المتابعة الجبيلية « ، التي انخرط في إطارها إلى جانبه: العلاّمة الشيخ حسن عوّاد، المرحوم القاضي الرئيس أديب علاًّم، النائب السابق الدكتور محمود عوّاد، المرحوم الحاج الدكتور سلمان العيتاوي، الحاج حسن محمود المقداد «أبو طعّان»، النقيب الحاج حسين برّو، الأستاذ علي إبراهيم، مختار بلدة حجولا، السيد أبي ناصيف، المحامي محمد علي حيدر أحمد وغيرهم. وقد عكفت هذه اللجنة على عقد اللقاءات الدورية والتواصل مع فعاليّات بلاد جبيل السياسيّة والدينيّة من أجل ترسيخ صيغة التعايش الفريدة في بلاد جبيل، ومعالجة ذيول كلّ حادثة تتناقض مع جوّ الوفاق والعيش المشترك، وإبعاد كأس الحرب الأهليّة المرّة عن أرجاء هذه المنطقة المقدودة من خاصرة المحبّة والوفاق والتسامح. ويُسَجّل للحاج أبي سامي في بداية هذه الحقبة السوداء من تاريخ لبنان أنّ قربه من رئيس المجلس الشيعيّ الأعلى آنذاك الإمام السيّد موسى الصدر، هَيَّأ الأسباب المؤاتية لزيارة وفاقيّة تعايشيّة قام بها الإمام إلى بلاد جبيل، وكان له محطّة توقّف مشهودة في منزل الحاج أبي سامي الكائن في علمات، حضرها حشد كثيف من أعيان منطقة جبيل وأبنائها الذين أعدُّوا للضيف الكبير استقبالاً حافِلاً يليق بمقامه المرموق، لا تزال صوره محفورة في ذاكرة الجبيليين وماثِلةً للعيان.

4ـ الأب الرؤوم والمربّي المسؤول:

إنَّ انخراط الحاج أبي سامي في العمل الاجتماعيّ والشأن العام لم يصرفه عن الاهتمام بأسرته، مُجسِّدًا الأب العطوف والمربِّي الناجح. وقد آتَتْ جهوده أُكُلَها بتأسيس أسرة كريمة رفدتِ المجتمعَ بالطاقات العلميّة والتربويّة الخلاَّقة، فكان من أبنائه الدكتور الجرّاح المرحوم سامي، وطبيب القلب والشرايين الدكتور سميح، والمؤمن الصَّالح المرحوم الحاج محمّد، ومديرة مدرسة التكامل الإسلاميّة ـ القسم المتوسِّط الحاجة سامية، والأستاذة الجامعيّة الدكتورة خديجة، والأستاذة الثانويّة الحاجة زهراء، والمربيتان المدرستان الحاجة زينب ومريم. ولكنّ الدهر عبس للحاج أبي سامي بعدَ ابتسام، ففجعه برحيل ابنه الأكبر الدكتور سامي، وهو في ريعان شبابه، فراح الوالد المُصاب بفلذة كبده يبكيه ويرثيه بخاطر مفجوع وقلب موجوع، إلى أن أسلم الروح لباريها، ووافاه القدر المُتاح.

5ـ مناقبه ومواهبه:

لقد اجتمعت في شخصيّة الحاج أبي سامي مناقب ومواهب عديدة، وكان لانخراطه في ميادين المجتمع وتجشّمه الأسفار وشغفه بالمطالعة اليد الطُّولى في رسم ملامح شخصيته الفذّة وذكائه المتوقّد. فما بالك بإنسان كريم، صادق، مؤمن، ذكيّ، مُكِبٍّ على المطالعة والاستزادة من الأدب، مُتضَلِّعٍ من العلوم الدينيّة، تستهويه قراءة المُصنَّفات والموسوعات كـ «الكشكول» لبهاء الدين العامليّ، و «أعيان الشيعة» للمرجع السيّد محسن الأمين! ناهيك عن امتلاكه قدرةً على نظم الشعر العاميّ والعتابا، وكان في صباه يحدو في الأفراح، ويرثي في الأتراح. وكثيرًا ما كان ينبري لعجم عودنا ـ نحن اللغويين ـ بمجاراتنا ومباراتنا في الإعراب والقضايا اللغويّة الشائكة. وبالإضافة إلى ما ألمعت إليه من مزاياه الرفيعة، فقد كان ـ رحمه الله ـ سريع النكتة، ظريف المعاشرة، يغمر مجالس أنسه بسعة معارفه التراثيّة، وخفّة ظلّه، وروح دعابته، وهو المحدِّث العتيق اللبق الذي يسوق حكاياته بأسلوب ساخر وسلاسة وأداء آسِر، وكثيرًا ما كان يُتحفها بزيادات من بنات أفكاره؛ لتصبح أعمق في التأثير وألصق بالذاكرة. وفي مقابل هذه الروح المرحة، كان الحاج أبو سامي إنسانًا رصينًا، مُحِبَّا للخير ومساعدة الآخرينَ، يُجيد في إعداد لكلِّ مقامٍ مقاله، ولكلّ مُشكلةٍ مُعْضِلةٍ حلَّها. كذلك فقد عُرِف بصراحته اللاذعة، أحيانًا، في إبداء آرائه السديدة، وهو الذي لم يكن يُجامل على حساب حقٍّ تيقّن من صوابيته، وهذا ما كان يُزعج المُداهنين المُرائين الذين لا يُؤمنون بالوضوح والشفافيّة في بناء العلاقات الاجتماعيّة الوطيدة.

6ـ أفول نجمه:

أسلم الحاج أبو سامي روحه إلى باريها غروب نهار السبت 13 حزيران 2009، بعد أن باغته مرض عضال قاتل، فأُقيمَ له تشييعٌ مهيبٌ يليق بمقامه في منطقة برج البراجنة، ونُقِل جثمانه الطاهر إلى روضة النجف الأشرف في العراق. وقد نعاه، فضلاً عن عائلته التي كان يُعَدُّ من أبرز وجهائها، نائبُ رئيس المجلس الشيعيّ الأعلى الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان وأعضاء المجلس، وفعاليات بلاد جبيل، وأبناء بلدته علمات، وأعيان منطقة برج البراجنة. وتخليدًا لذكراه، وعرفانًا لعطائه، أُعِدَّ له احتفالٌ تأبينيّ حاشدٌ بمناسبة مرور أسبوع على وفاته، في قاعة الاحتفالات الكبرى التابعة للمعهد الفنّيّ الإسلاميّ، تعاقب فيه على الحديث عن مناقب الراحل وسجاياه كلُّ من نائب رئيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى الإمام الشيخ عبد الأمير قبلان، شريك الفقيد في مسيرة الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة الجهادية، والسيّد الأستاذ شفيق الموسوي مدير مدرسة التكامل الإسلاميّة، وأُلقيت في الاحتفال قصيدة مؤثِّرة للشاعر الأستاذ علي حسين عوّاد، واختُتِمَ الاحتفال بمجلس عزاء حسينيّ. وقد قدّم الخطباء عريف الاحتفال الدكتور عاطف جميل عوّاد.

وهكذا خمد ذلك القلب الكبير الذي عاش في ثورة من جيشان ضميره، وتوقُّد فكره، وتفجُّر عطائه، وبقي صورة مشرقة في نفوس محبيه وعارفيه الذين يُكبرون الرجال العظام، ويُقدِّرون أصحاب القامات الفارعة في مؤانسة الناس وخدمة المجتمع، وبذل الأيادي البيضاء.